الريادة تحت البيادة

الريادة تحت البيادة

31 يناير 2022
+ الخط -

اختارت إسرائيل الخامس عشر من يناير، قبل عامين، لكي تعلن عن بدء تصدير الغاز الطبيعي إلى مصر، لتكون الأخيرة أشبه بمحطّة أو استراحة للغاز الذي سرقه الاحتلال من فلسطين لكي يأخذ طريقه إلى القارّة الأوروبية.
في اللحظة ذاتها، لحظة إطلاق عملية تصدير الغاز، كان عبد الحكيم ابن جمال عبد الناصر يقف أمام الكاميرات في ضريح والده، لمناسبة ذكرى ميلاده (15 يناير) متحدّثًا عن وطنية الزعيم الذي طرد الاحتلال، وصار أيقونة الساعين إلى التحرّر في العالم.
في هذا العام، ولمناسبة مرور مائة وأربعة أعوام على ميلاد جمال عبد الناصر، كان عبد الحكيم يقف في المكان ذاته، وبينما كان الابن الأصغر مسترسلًا في الكلام عن زهد عبد الناصر ونظافة يده، والذي "زي ما قال حينما قامت الثورة ووصل إلى الحكم كان لا يملك شيئًا، وعد الشعب أنه حين يترك الحكم لن يملك شيئا والرجل أوفى بوعده والحمد لله، بل بالعكس كان مديونًا وفي أول جلسة لمجلس الأمة سدّدوا ديونه".
كان يقف على مسافة تزيد عن المتر الناصري المحترف العتيق، مصطفى بكري، إذ كان عبد الحكيم قد طلب من الحضور الابتعاد وارتداء الكمّامة، لكن بكري اقترب حتى كاد يلتصق، وانقض على أذني ابن عبد الناصر مفرغًا فيها همسة لا تقبل التأجيل. وهنا تدارك عبد الحكيم الموقف سريعًا، ليضيف وقد ارتفع صوته أكثر "أنا أول حاجة بقولها الحمد لله إن احنا ربنا مد في عمرنا وشفنا عهد الرئيس السيسي، لأنه أنا شخصيا لو الواحد مات قبل عهد الرئيس السيسي كان هيموت مقهور، يعني احنا طبعا النهارده بنشوف ما يحدث في البلد من نهضة في جميع المجالات، فن وتعليم وزراعة وطرق، وبنقول الحمد لله إن مصر رجعت تاني رائدة في قارتها الافريقية وعالمها العربي، وتاخد مكانها الطبيعي في المجتمع الدولي .. وآخر حاجة بوجّه التحية لجيش مصر العظيم خير أجناد الارض، ومرّة أخرى بشكر الرئيس السيسي وجيش مصر اللي حقق معجزتين، حرب الاستنزاف و.. ". ثم عنّف المراسل الذي كان يسجل تصريحاته بصوت حاد، قائلًا "ما تكتب"، فردّ المراسل بأنه يسجّل كل حرف، لينتهي الموقف من دون أن يخبرنا عبد الحكيم عبد الناصر بالمعجزة الثانية لجيش السيسي.
في مساء اليوم نفسه (يوافق ذكرى بدء ضخ الغاز من إسرائيل في ذكرى ميلاد عبد الناصر) كانت ابنته الدكتورة هدى تكدّ وتكدح على قناة "صدى البلد" مع مصطفى بكري، أيضًا، في بيان القواسم المشتركة بين جمال عبد الناصر وعبد الفتاح السيسي.
هدى عبد الناصر، وشقيقها عبد الحكيم، وخلفهما أو أمامهما مصطفى بكري وعديد من الـ"مصطفى بكري" من محترفي الصياح بشعارات القومية العربية ومناهضة التطبيع، هم، كذلك، الأكثر استبسالًا وتفانيًا في الدفاع عن دولة الإمارات، وتصويرها قلعة العروبة.
لكنهم بالطبع، وكما تجرّعوا الغاز المستورد من الكيان الصهيوني في صمت، أو في سعادة بالغة، جعلتهم يكدحون أكثر وأكثر في إثبات ناصرية السيسي، أو بالأحرى سيسوية عبد الناصر، فإنهم لم يروا مشاهد العناق الحميم بين العلمين، الإماراتي والصهيوني، بينما رئيس دولة الاحتلال، "هيرتزوغ الصغير" يستعرض وزوجته حرس الشرف في مراسم استقبال أسطورية له في العاصمة الإماراتية، حيث يقضي يومين يدشن خلالهما "يوم إسرائيل" في "إكسبو دبي".
هم، أيضًا، لن يهتز لهم جفن، أو تداهمهم قشعريرة خجل، إذا ما رأوا الغاز القادم من الكيان الصهيوني، للإسالة وللاستعمال المنزلي، يُعاد توجيهه إلى لبنان، العروبي المقاوم، والواقع تحت حصار وضغط عربي مكثف منذ عامين، لكي يرضخ أخيرًا ويتجرّع الحل الأميركي/ الإسرائيلي.
لكنهم، ربما، وهذا احتمال ليس قريبًا تمامًا، قد تستفزّهم الأنباء المسربة عن هبوط طائرات خاصة إسرائيلية في مطار الدوحة، أو زيارة رئيس الكيان الصهيوني المرتقبة إلى تركيا، فترتفع أصواتهم صياحًا، ليس من باب التنديد بالتطبيع وشجبه، وإنما على طريقة "ليس زعيمنا المحبوب وحده الذي يطبع".
أمثال هؤلاء المناضلين المحترفين، هم مبتدأ هذه الحالة من الانحناء والانبطاح التي ظهر عليها مشاركون في مهرجانات تركي آل الشيخ الثقافية والفنية في الرياض، ليعلنوا أن الريادة هنا، والإشعاع الحضاري لم يعد يصدر إلا من هنا .. نحن نحب هنا ونريد أن نبقى هنا، حيث انتقلت الريادة واختارت لها موطنًا جديدًا.
لا تطربني أحاديث الريادة، وعراك المركز والأطراف، خصوصًا عندما تنبع من شوفينية مقيتة، واستعلاء عنصري ممجوج، وأرى أن الإبداع ليس عبدًا ذليلًا للجغرافيا والتاريخ، لكن الأبشع من الاستعلاء بالتاريخ هو الاستخذاء والانسحاق أمام الاقتصاد، وخصوصًا عندما يتدحرج هذا التدني من أعلى هرم السلطة إلى سفوحٍ يتكدّس فيها خدم هذه السلطة، من بعض المحسوبين على النخب الثقافية والفنية والسياسية.
فنانو آل الشيخ هم الامتداد الطبيعي لحكام "الثلاث حبات من الرز"، والذين هبطوا بمصر إلى ما تحت مستويات التسوّل والاستجداء، وهم كذلك انعكاس طبيعي لشريحة من السياسيين والإعلاميين ظهروا عراةً من كل قيمة وطنية أو مبدأ أخلاقي في تسويغ جريمة التفريط في جزيرتي تيران وصنافير.
باختصار شديد: الفن الرخيص والثقافة الرخيصة لا يظهران إلا مع أنظمةٍ رخيصة، تستثمر فيهما وتوظفهما لخدمة ذلك الرخص الحضاري المقصود، حتى صارت الريادة تحت البيادة.

وائل قنديل
وائل قنديل
صحافي وكاتب مصري، من أسرة "العربي الجديد". يعرّف بنفسه: مسافر زاده حلم ثورة 25 يناير، بحثاً عن مصر المخطوفة من التاريخ والجغرافيا