الرئاسيات الفرنسية المقبلة: هل هي الأمركة حقّاً؟

الرئاسيات الفرنسية المقبلة: هل هي الأمركة حقّاً؟

20 نوفمبر 2021
+ الخط -

يطرح التناول الإعلامي في أفق رئاسيات فرنسا في 2022 إشكاليات سياسية أضحت حديث الإعلاميين والسياسيين، وخصوصاً أن حدوثها يتزامن مع دخول فرنسا عهد أفكار وسلوكيات سياسية جديدة على يد الرئيس ماكرون الذي يريد كسر قاعدة التقاليد السياسية الفرنسية وفرض تسويق اتصالي على الطريقة الأميركية، وهو ما ينبئ بحملة سياسية حامية الوطيس في 2022. وكأنّ الجميع، الآن، في بروفة سياسية تحتّم التكيّف مع التغييرات، ما يستدعي دراستها والوقوف على كنهها، لما لها من تداعيات على إدراك فرنسا شؤوناً كثيرة، منها المتّصلة بالاستراتيجية تجاه المتوسط، السّاحل وشمال أفريقيا، أي المغرب العربي.
تشير تلك التغيّرات في السّلوكات السياسية إلى فراغ فكري عميق، أصاب عصب النّخبة الفرنسية، حيث تمّ تغييب القاعدة الأيديولوجية التي كانت تعتمد الرّؤية إلى القضايا السياسية وفق الانتماء لليمين أو اليسار الفرنسي، وهو ما كان يثير نقاشات كبيرة بين اتجاهين فلسفيين، أوّلهما ليبرالي والآخر يساري اشتراكي/ شيوعي وبينهما تيار الوسط، أو ما يُعرف بالتّيار الاجتماعي الدّيمقراطي، لتصبح الحياة السياسية الفرنسية مفرغة تماماً من ذلك كلّه، ومرتكزة على نقاشاتٍ تلعب الصّورة فيها الدّور الأبرز، وخصوصاً بعد انتخاب الرّئيس الحالي، ماكرون، والذي كان مرشّحاً مستقلاً عن تلك التيارات السياسية، وحاول إنشاء تيّار جديد يحمل مسمّى "الجمهورية إلى الأمام"، لا تنتمي إلى أيّ من الاتّجاهات الفكرية/ السياسية المعروفة، يسار/ يمين/ وسط، بل إلى اتجاهٍ يلعب على كل الأوتار، ويستغل كل الفجوات لفرض رؤية وإدراك يدعوان إلى أمركة الحياة السياسية واستغلال المجالين الإعلامي والافتراضي، ما يدلّ على ضحالة المستوى السياسي الذي وصلت إليه فرنسا، الآن، وينذر بانتخابات رئاسية محتدمة تفتح الباب على استخدام كلّ الوسائل والأدوات المتاحة.
بإسقاط تلك المرجعية، لم يجد المجال السياسي من قضايا إلّا التي تُثير جدالات بدون عمق فكري، على غرار الرؤية إلى الإسلام، والهجرة والشؤون الاجتماعية (السترات الصفراء وملف التقاعد)، وهي ملفّات اتّسمت بخطاب جديد، بعبارات مثيرة أعادت إلى الأذهان، وفق بعضهم، أجواء ثلاثينيات القرن الماضي، أي الفترة التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الثانية، حيث تعالت الشعبوية واليمينية المتطرّفة، ليس باعتباره نقاشاً سياسياً، بل ضباب يغطّي فراغاً فكرياً وضحالة المستوى السياسي.

وصل الأمر بالرّئيس ماكرون إلى إثارة إشكالية الفئوية الاجتماعية بالحديث حول محاولة الانفصال التي يريد بعضهم الذهاب إليها

المسائل التي يتهرّب ماكرون وحزبه، بل النخبة الفرنسية بأكملها، من مناقشتها هي تلك المتصلة بأزمات عميقة وهيكلية، تمسّ أسس عمل النظام الاقتصادي المأزوم، منذ عقود، باعتماده على جزء كبير من المساعدة الاجتماعية، والتي يريد ماكرون، باعتبار رؤيته الليبرالية، التراجع عنها، مبرّراً أسباب تراجع الأداء الاقتصادي الفرنسي إلى تلك الاعتبارات الاجتماعية، ومنها ملفّ التقاعد المثير للجدل في مقاربة الإصلاح الصادمة له، والتي يقترحها الرئيس الفرنسي والقوى الاقتصادية التي ساندت وصوله إلى سدّة الرئاسة (أقطاب المال وأرباب الأعمال).
كما يحاول ماكرون، أيضاً، التهرّب من إشكالية حيوية، تتعلّق بمعالجة أزمات الاتّحاد الأوروبي بسبب خروج بريطانيا منه (بريكسيت)، والزّعامة الألمانية التّي تعيد إلى الأذهان المخاوف التّاريخية الفرنسية من الرّضوخ، مجدّداً، لتحكّم ألماني أضحى واضحاً على المنتظم الأوروبي، ما أدّى إلى اقتراح فرنسا اقتسام الأدوار مع المستشارة أنجيلا ميركل، حيث تلعب ألمانيا الدّور الاقتصادي البارز في الاتحاد الأوروبي، فيما يكون الدّور الفرنسي عسكرياً، بعد إثارة ماكرون قضية الدّفاع والأمن الأوروبيين، والابتعاد عن المظلّة الدفاعية الأطلسية/ الأميركية، في مؤتمر ميونخ للأمن، قبل أيّام، إضافة إلى اقتراحه الاقتراب من الدّب الرّوسي، في محاولة لإبراز دور أكبر للفاعل الأوروبي، بصفته الموازن في العلاقات الدولية بين أميركا، من ناحية، وروسيا - الصّين، من ناحية أخرى.
وصل الأمر بالرّئيس ماكرون إلى إثارة إشكالية الفئوية الاجتماعية بالحديث حول محاولة الانفصال التي يريد بعضهم الذهاب إليها، موحياً، تجاه الطبقة السياسية والمجتمع الفرنسيين، بأن المسلمين، والمغاربيين خصوصاً، إذا ما عمدوا إلى تنظيم أنفسهم في قوائم حزبية أو مستقلة، في أفق المحليات المقبلة، فإنما يريدون الانفصال عن الكتلة الوطنية الفرنسية، ليكون هذا الخطاب هو الحديث ذاته الذي استخدمه اليمين وممثّلوه لوصف المناطق التي يقطنها المسلمون، والمغاربيون بصفة خاصّة، بالمناطق الرمادية التي على الجمهورية العمل لاستعادتها من الاختطاف الإسلاموي والفئوي.

تولّد عن الأمركة في فرنسا الخطاب اليميني الذي أصبح هاجس الطبقة السياسية والإعلامية الفرنسية

مجرّد إثارة هذه الإشكاليات هو عودة إلى استخدام العواطف والنعرات الضيقة في معالجة مسائل واقعية، تتعلق بضعف الأداء الفرنسي وتراجع مكانة الدولة الفرنسية لأسباب اقتصادية، وأخرى بضعف الحيوية الدّيموغرافية والابتكارية، كليهما. وكما يفاقم ذلك فشل ماكرون في أكثر من ملف، داخلي وخارجي، في رأب الصدع وربح معركة الترشح، مرة أخرى، لولاية رئاسية جديدة، بعد سنتين، معيداً إلى الأذهان شبح فشل سلفه، فرانسوا هولاند، على المستوى الاقتصادي، بصفة خاصة، جارّاً معه تراجع اليسار الاشتراكي، برمّته، وخسارته الرئاسيات ثمّ التشريعيات، في 2017.
تكفي الإشارة هنا، أيضاً، إلى شكل الحملة الانتخابية المبكّرة لرئاسيات 2022، حيث تتوجّه إلى الأمركة، من حيث التغطية الإعلامية ومقاربة تغليف الخطاب السياسي، حيث تبنّت أغلب القنوات الإخبارية ما يُعرف بالحصص الحوارية للتعليق على أي أخبار، خصوصاً تلك المتعلقة بالهجرة، والإسلام والهوية، تاركة بقية الإشكالات من دون تناول، وكأن المشكلة الكبرى في فرنسا هي تلك الضواحي وساكنيها بعيداً عن مكانة فرنسا الدولية والإشكالات الاقتصادية (البطالة والانتعاش الاقتصادي) والاجتماعية (ملف التقاعد والإقصاء/ التهميش).
تولّد عن تلك الأمركة ذلك الخطاب اليميني الذي أصبح هاجس الطبقة السياسية والإعلامية الفرنسية، ممثلاً في شخص إيريك زمور الذي أصبح حديث العام والخاص في فرنسا، خصوصاً مع إضفاء المعطى الآخر لأمركة الحياة السياسية في فرنسا، وهو طغيان الاعتماد على مؤشرات قياس الرّأي العام، من خلال عمليات سبر الآراء التي لا يكاد يمرّ يوم من دون أن نسمع بعدة عمليات منها، تؤكد على الشيء ونقيضه، أحياناً، حيث ترفع سياسيين وتضع آخرين، لكن مع متغيّر وحيد يشكل مركزية في الرئاسيات المقبلة، وهو الاستقطاب الماكروني/ اليميني المتطرف، على غرار ما جرى في عام 2017، ما يجعل حظوظ الرئيس الحالي أكبر للاحتفاظ بمقعده لعهدة ثانية إرضاء للأوساط المالية التي راهنت عليه، وما زالت، لاحتواء الإشكالات الاقتصادية التالية لانحسار جائحة كوفيد 19، ووضع أسس النظام العالمي الجديد.

فرض ماكرون ونخبة من السياسيين خطاباً وجدالاً سياسيين لا يبعثان إلّا على الانقسام الفئوي والمجتمعي داخل فرنسا

هذا هو حال الدّيمقراطية الفرنسية، حالياً، أمركة للسلوكات السياسية، وسعي نحو تبنّي مقاربات تراجعية عن المساندة الاجتماعية للفئات المهمّشة، وهو ما استدعى قيام حركة السترات الصفراء، قبل أن تتفاقم الأوضاع لتطاول المجتمع الفرنسي بكل فئاته، بسبب محاولة تمرير محتمل لقانون جديد للتّقاعد (بعد انحسار الجائحة)، وبدلاً من الاهتمام بتلك الملفات ومعالجتها المعالجة السياسية التي تليق بها، فرض ماكرون ونخبة من السياسيين خطاباً وجدالاً سياسيين لا يبعثان إلّا على الانقسام الفئوي والمجتمعي داخل فرنسا، ما لا يُنذر برئاسيات هادئة في 2022، بل ستزيد الأوضاع ترنّحاً، ما قد تكون له تداعيات على إدارة ملّفات حسّاسة تمس الجيران (الاتحاد الأوروبي) أو الإقليم (الساحل، بصفة خاصة).
توحي القراءة المتأنية لعناوين صحف فرنسية صادرة في الأسابيع القليلة الماضية بأنّ ذلك الخطاب بدأ بالتجذّر في الإدراك والوعي الإعلاميين والسّياسيين، كليهما، إذ إنّ كلمة "انفصال" عادت وتكرّرت أكثر من مرة، مقرونة بمفاهيم الإسلام والمسلمين والفئوية، وهي أخطر عبارات يمكن سماعها في خطاب أي سياسي أو إعلامي، لأنّ الأمر أبعد ما يكون عن الجدال الرّصين التّناول الهادئ، بلغة سلسة، لإشكالات حيوية ومصيرية مثل هذه.
إنّها حالة فرنسا، حالياً، وهو الخطر بعينه على الديمقراطية الفرنسية، ومستقبل وجود المهاجرين فيها.