الديمقراطية الحسناء التي قد تلد وحشاً
انهارت الديمقراطيات في أوروبا الغربية قبيل الحرب العالمية الثانية، وصعدت أنظمة فاشية ألغت ما راكمته تلك التجارب من علوية القانون وفصل السلطات والتعدّدية وحرية الإعلام، وانتكست إلى أنظمة الزعيم الأوحد الذي يستولي على مطلق السلطات. إنه القائد والملهم والمقاتل الذي وحده يسطّر للأمة مصيرها.
صعّدت بعض هؤلاء القادة صناديق الاقتراع بأشكاله المختلفة، وبعض آخر صعّدته انتفاضات هوجاء، هي أقرب إلى الانقلابات العسكرية. لم تستطع الديمقراطيات، سواء في فرنسا أو ألمانيا، أن تدافع عن نفسها. لقد استغل هؤلاء الفاشيون الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتلاحقة التي عرفتها أوروبا بين الحربين، ليقدّموا أنفسهم الحل الأمثل والوحيد لتلك الأزمات الحادّة. ولا شك أن الأحزاب والنقابات والحركات الاجتماعية، ومنها الحركة العمّالية، لم تنضج بعد، وظلت أقرب إلى الفوضى، بتلك النزاعات الراديكالية والقصووية التي أطاحت مثلاً حكومة الجبهة الشعبية في فرنسا، وهي التي ما زالت في المخيال السياسي الفرنسي نموذجاً ملهماً، رغم قصر التجربة، حيث استطاعت أن تستجيب لجلّ المطالب الاجتماعية وتحقق رخاءً اقتصادياً استثنائياً في وقت وجيز.
رغم عجزها عن الدفاع عن نفسها، ظلت الديمقراطية، حتى بعد أن انتهت الحرب العالمية الثانية، ملهمة، ونموذجاً تطمح إليه الشعوب. لم يشكك الناس في صواب الخيار الديمقراطي، بل رسخوه واعتبروه نموذجاً مثالياً للحكم، وعدّوه معياراً لتصنيف الأنظمة والمجتمعات ومؤشّراً يعتمدونه، من حين إلى آخر، في بناء التحالفات أو الدعم، وكرّسوا له موازنات ضخمة للتمويل، جرى ذلك في سياق حربٍ باردة، استمرّت ما يناهز نصف قرن. وضعت مخيمين كبيرين وجهاً لوجه، مخيماً ديمقراطياً وآخر شمولياً، تقاسما العالم وأجبراه على الاصطفاف إلى هذا الطرف أو ذاك. لم تكن جماعة عدم الانحياز إلا تعبيراً شاعرياً أو حلماً طوباوياً قلما كانت له قرارات حاسمة، أو تأثير في مجرى الأحداث، وما أكثرها! أما الطريق الثالثة في كونها نظريةً، فلم تكن قادرةً على إثبات أصالتها.
التخدير الأيديولوجي والإعلامي يمكن أن يحوّل الأنظمة الديمقراطية إلى آلة قوة عمياء
في هذا المسار الطويل والمعقد، ربحت الديمقراطية، بمعناها الليبيرالي، المعركة، وتفكّك مخيم الشمولية الذي قاده الاتحاد السوفييتي، وحرفت أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية، وحتى أفريقيا، تجارب متفاوتة القيمة من الدمقرطة، قبل أن تتمكن منه نزعات شعبوية لا تخلو، من حين إلى آخر، من التسلطية إلى حدٍّ بدت فيه الديمقراطية أقرب إلى نماذج من نزعات زعامتية تتلاعب بعواطف الناس. الموجة التي تعاظمت منذ صعود ترامب أقرب إلى ديمقراطية شكلانية، لأنها تظلّ، في جوهرها، شعبوية يمينية، تعادي حقوق الشعوب وطموحات البشرية نحو العدالة والمساواة.
نحن أقرب حالياً، في مثل هذه الانحرافات الكبرى التي تشهدها الديمقراطية، إلى ما مرّت به قبيل الحرب العالمية الثانية، مع فارق مهم، هو مزيد من الطلب الاجتماعي على هذا النوع من الانحرافات بالذات. كانت الديمقراطية بين الحربين تغضّ الطرف عن التوسّع الهمجي الذي ترتكبه تلك الأنظمة الديمقراطية، وهي تخضع شعوباً لم تؤذها، فتمضي فرنسا وألمانيا وبريطانيا، وهي اكثر الأمم ديمقراطية آنذاك، في سحق مجتمعاتٍ تبعد عنها آلاف الأميال. كيف يمكن أن نجد مبرّراً واحداً يجيز لبريطانيا أن تحتل الهند أو جنوب افريقيا؟ كيف يمكن مثلاً لبلد أطلق للعالم إعلان حقوق الإنسان مبكّراً (سنة 1789) أن يزحف على الجزائر، بعد أربعة عقود تقريباً منه؟... لا شيء غير تلك الانحرافات التي تشبه ما يحدث الآن تقريباً... إنها السكيزوفرينيا التي لم تستطع أن تداويها الديمقراطية الغربية، وهي التي حفّزت الفيلسوفة حنّا آرندت على أن تدقّ جرس الإنذار المنبّه إلى عمى الديمقراطية الغربية، حينما يتعلق الأمر بحقوق الشعوب، خصوصاً أن التخدير الأيديولوجي والإعلامي يمكن أن يحوّل هذه الأنظمة الديمقراطية إلى آلة قوة عمياء.
الموجة التي تعاظمت منذ صعود ترامب أقرب إلى ديمقراطية شكلانية
نشأت هذه الديمقراطيات، في الأصل، "وطنية قومية"، أي محلية الصنع والمهجة. لقد أُجهِضَت كل الأبعاد الإنسانية فيها، وقلما نجد في تلك الدساتير الديمقراطية القومية، ما يعزّز حقوق الشعوب في ديمقراطية كونية. يثبت حق الفيتو مثلاً عن بقايا تلك "الذهنية" التي تميّز بين أمم لها حق تدبير الشأن الكوني وأخرى يظلّ صوتها أدنى مرتبة، بل لا يسمع مثلاً. تعبّر ثنائية مجلس الامن/ الجمعية العامة عن تلك القسمة والشرخ الذي يفتّت ضمير العالم إلى قسمين.
لا يمكن فهم كل هذه المواقف العبثية والمجنونة الفاقدة الحد الأدنى من العقلانية والمنطق والأخلاق الإنسانية التي تصدر تباعاً عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب تجاه غزّة إلا من تلك الزاوية التي تكشف نقاط ضعف الديمقراطية الغربية، وهي لا تخلو من ثلاثة أمراض قد تستفحل قادماً: عجزها عن تحصين نفسها من انحرافات الشعبوية في ظل تنامي صناعة الرأي العام والتلاعب به تحت القوة الهائلة والقدرات الضخمة لتقنيات التواصل وشبكاته بفعل قوة المال والإعلام، نكران حقوق الشعوب وحقها في ديمقراطية كونية، تتساوى فيها الأمم ووضع حد لكل أشكال التراتب المُجحف، كلما تعلق الأمر بتدبر النزاعات الناشئة بين الأمم (إصلاح جذري للأمم المتحدة تعيد تدقيق آليات اتخاذ القرارات وتنفيذها) بشكل عادل بين الأمم، والكف عن دعم الأنظمة الشمولية والاستبداد تحت أي ذريعة.
ستظل غزّة حرّة، ليس لأنها عصية على الغزاة فحسب، بل أيضاً لأنها ضمير العالم الذي يخزنا كلما فكرنا أن للشعوب حقوقاً عجزت الأمم المتحدة عن صونها.