الديكتاتور المتحوّر

16 فبراير 2025
+ الخط -

كيف يمكن للفنّ أن يُعطي شكلاً للوحش؟ ذاك هو السؤال المزمن الذي ما انفكّ يدفع بالرواية والسينما، على سبيل المثال، إلى التطوّر والتجدّد. خاصّة ذلك النوع من الروايات والأفلام الذي اعتنى بثيمة الديكتاتور. وُلِد هذا النوع في أميركا اللاتينيّة، مع رواية "السيّد الرئيس" للغواتيماليّ ميغيل أنخيل أستورياس (1899 - 1974)، في ثلاثينيات القرن العشرين. ويقول الروائيّ المكسيكي كارلوس فوينتس (1928-2012) إنّه التقى زميله البيروفيّ ماريو فارغاس يوسّا (1936) في لندن، خريفَ 1967، وخطر لهما دعوة مجموعة من زملائهما إلى كتابة روايات قصيرة في نحو الخمسين صفحةً، يكون موضوعها الطاغية، وإنّ دار غاليمار تبنّت المشروع، لكنّه لم يتحوّل من فكرة إلى مُنجَز إلاّ لدى قِلّةٍ من المدعوّين. هكذا كسب الأدب روائع مثل "أنا الأعلى" لأوغوسطو روا باستوس (1917 - 2005)، و"خريف البطريرك" للكولومبي غارسيا ماركيز (1927-2014)، و"سلاح المنهج" للكوبي أليخو كاربنتييه (1904-1980)، من دون أن ننسى "حفلة التيس" ليوسّا.

ليس من شكٍّ في أنّك مُنتبِهٌ هنا، وأنت القارئ العربيّ النهم لهذه الروايات، المتابع الدؤوب لما صوّر عنها من أفلام، إلى أنّ النظام العربيّ الرسميّ لم يكن أشحّ من أميركا اللاتينيّة في إنتاج الطغاة. لكنّ وضع المبدع العربيّ أقلّ حصانةً وأكثر هشاشةً من غيره. لذلك وقفت أعمالُ بعضهم ضمن حدود معيّنة، واضطرّ آخرون إلى التلميح والرمز، أو الإبداع في المهاجر لإطلاق المغامرة الجماليّة من زنزاناتها المختلفة. ولعلّك شديد الفخر ومستمتع بأعمال مسرحيّة وسينمائيّة وروائيّة عربيّة عديدة، لكنّك تظلّ متعطّشًا لأعمال تقوّل "ديكتاتورك" بشكل أعمق وأجرأ وأجمل، وأكثر خصوصيّة.

ولعلّ ما يعزّيك بعض العزاء أنّك تنظر إلى الموضوع في ضوء هذه اللحظة العالميّة العاصفة، فيرسخ في ذهنك أنّ الروائيّين وصنّاع الأفلام يقفون اليوم أمام معضلةٍ اسمُها الديكتاتور بوصفه "متحوّراً جديداً" هو و"شعبه السعيد"، شبيهين بمتحوّرات كوفيد. لديك من جهةٍ شخصٌ مزيجٌ من الصهيونيّة والفاشيّة، لا يُصَدَّق من فرط لا واقعيّته، ولديك من الجهة الأخرى شعوب "لا تريد"، ويصعب تصديقها من فرط ضعف إرادتها. من ثمّ يصعب تحويل أيٍّ كان من الجهتين إلى شخصيّة أدبيّة أو سينمائية تمتلك ما يكفي من شروط الصدقيّة الفنيّة. ذاك هو "متحوّر الديكتاتور بنيامين/ ترامب ومشتقّاته"، ما سبقه منها وما لحق. وسواء كنت عربيّاً أم غربيّاً، من أميركا اللاتينيّة أم من شمال أميركا أم من أوروبا وأفريقيا، سيرتبك خيالك أمام مثل هذا الديكتاتور، حتى لو كنتَ الكاتب الأميركي ستيفن كينغ (1947)، صاحب رواية "11/22/63" الصادرة سنة 2011، أيّام كان أوباما رئيسًا للولايات الأميركيّة المتّحدة. رواية نفّاذة، لولا معرفتنا بحيثيّاتها لظننّا قبل سنوات أنّها كُتِبَت خصّيصاً هجاءً لدونالد ترامب... لكن الشخصيّة التي نقرؤها في الرواية تبدو ملائكيّة، مقارنة بالشخصيّة التي نراها تهذي وتعربد من أعلى ترسانتها النوويّة في العالم اليوم.

والحقّ أنْ لا شيء هيّأ الروائييّن والسينمائيّين لمثل هذه الشخصيّة. من ثمّ يجدر بهم رفع التحدّي، وزحزحة جدران الممكن واقعيّاً، كي تتزحزح جدران الممكن إبداعيًّا. هكذا يمكن تحديد تركيبة هذا المتحوّر العجيب: وجهٌ بشقّين لم يعودا في حاجةٍ حتى إلى التنكّر بقناع. شقٌّ هو راعي البقر الملياردير المتصهين. وشقٌّ هو صهيون بن هانيبال ليكتر، بطل فيلم "صمت الحملان" (إخراج جوناثان ديمي عام 1991). وكلاهما معًا مسخٌ كانيباليّ، يلتهم كلّ ما يُلتَهَم، مُتخلّيًا عن ذاك الطلاء الشفيف من الدبلوماسيّة أو النفاق العامّ، الذي لم يتخلّ عنه حتى هتلر أو موسوليني. وحش سافر لا يخجل من التجاهر بالاغتيال والتطهير العرقي، ولا يتورّع عن ممازحة الصحافيّين وهو يصف الدمار الذي لحق بغزّة، والخسائر التي لحقت بمعالم الثقافة الإنسانيّة التي احتفظت بها غزّة، من دون أن يذكر لحظةً أنّ قنابله وطائراته هي التي فعلت كلّ ذلك بغزّة، ومن دون أن يخطر على باله للحظة أن يقرّ لهم بحقّ من حقوقهم، عارضاً فكرةَ التهجير كأنّه يعرض براهين على سخائه وعطفه، مؤاخذاً سكّان غزّة على أنّهم جعلوه يفتح عليهم أبواب جهنّم، رغماً عنه، هو رسول المحبّة والسلام! جلدة يابسة، وروح عمياء، وضمير ميت، يتحدّث عن الحب والتسامح والسلام، بينما دم ضحاياه يلوّث يديه، وأشلاء لحمهم وأحلامهم عالقة بأنيابه، ودمهم يتطاير مع البصاق المتناثر من بين شدقيه.

شاعر تونسي ومترجم من الفرنسية.
آدم فتحي
شاعر تونسي ... وشاعر غنائي ومترجم من الفرنسية.