الديكتاتورية الدستورية

الديكتاتورية الدستورية

03 يوليو 2022
+ الخط -

ابتكر الرئيس التونسي، قيس سعيّد، نوعاً جديداً من الدساتير التي لم يشهد العالم لها مثيلاً. دستور يؤطّر الدكتاتورية التي ينشئها بقوانين وديباجات فارغة وركيكة ومواد ستُعرض على الاستفتاء الشعبي قريباً، ومن المرجّح أن تمرّ في إطار إجراءات سعيّد التي تحاصر كل الأصوات المعترضة على إجراءاته.

شهدنا في منطقتنا العربية، ولا نزال، ديكتاتوريات كثيرة، من الأسد الأب والابن مروراً بصدّام حسين ووصولاً إلى حسني مبارك، غير أن كل هذه الدكتاتوريات كانت تعمل على خرق الدستور، من دون أن تلجأ إلى شرعنة طغيانها وتسلّطها باختراع دستورٍ يمجّد عملها. كانت تكتفي بالقوانين التي تقوم بذلك، وخصوصاً أنها بأدواتها القمعية خارج إطار المحاسبة. النظرة على الدستور السوري مثالاً تعطي الانطباع بأنه كان جيداً إلى حد ما، حتى إن النقاشات في اللجان الدستورية التي كانت تبحث فيها المعارضة صياغة دستور جديد، وصل بعضها إلى المطالبة بالإبقاء على الدستور القائم، مع بعض التعديلات، والحرص على تطبيقه، فالمشكلة بالأساس لم تكن في الدستور، لكن في تطبيقه.

قيس سعيّد تنبه إلى ذلك، وهو الخبير الحريص على القانون، لم يرد الاستمرار في خرق كل المعايير والمواد الدستورية، فأنشأ دستوراً على مقاسِه الخاص، هو فقط ولا أحد غيره. دستور يمجّد "إنجازاته"، ويمنحه مطلق الصلاحيات التي استولى عليها بعد انقلابه على المسار الديمقراطي التونسي. في دستور قيس سعيّد الجديد لا مكان للبرلمان، هو مجرّد هيئة شكلية، من لزوم "الديكور الديمقراطي" الذي يدّعي الرئيس التونسي الحرص عليها. فحتى التشريع، المفترض أن يكون من دور النواب الذين ينتخبهم الشعب، سحب سعيّد هذه الصلاحية منهم، أو على الأقل قلّص دورهم فيها، وباتت موزّعة مناصفة بينهم وبين هيئة جديدة تسمى "المجلس الوطني للجهات والأقاليم"، ستكون بمثابة غرفة برلمانية ثانية.

أما الحكومة، فأيضاً لا دور للبرلمان في مساءلتها أو محاسبتها، أو حتى تشكيلها. فإذا كان النظام البرلماني ينصّ على أن تتشكل الحكومة من الكتلة الكبرى في البرلمان، فإن دستور قيس سعيّد منح الرئيس صلاحية تعيين رئيس الحكومة وبقية أعضائها وإنهاء مهامهم، بغض النظر عن نتائج الانتخابات، هذا في حال أبقى الرئيس التونسي على الانتخابات. إذ إنه وفق هذا النظام، ما الحاجة للاقتراع إذا كان الرئيس هو صاحب كل الصلاحيات.

لم يكتفِ سعيّد بذلك، بل فصّل مواد دستورية تحصّن الرئيس من المساءلة والعزل. إذ ينصّ مشروع الدستور الجديد على تمتّع الرئيس بالحصانة طوال رئاسته وعدم جواز مساءلته عن الأعمال التي قام بها في إطار أداء مهامه. إذن، لا أحد مطلقاً بإمكانه مساءلة رئيس الجمهورية، بحسب النص، عن أي قرار أو فعل يقوم به، بعدما وضع كل السلطات التشريعية والتنفيذية في يده، متفوقاً بذلك على كل الأنظمة الرئاسية المعروفة عالمياً. فحتى الرئيس الأميركي، إذا اعتبرنا أن النظام في الولايات المتحدة نموذج للأنظمة الرئاسية، ليس مطلق الصلاحيات إلى هذا الحد، ويساءَل أمام البرلمان بغرفتيه، وبإمكان هاتين الغرفتين تعطيل قراراتٍ كثيرة يُصادق عليها الرئيس.

سعيّد، وبحسب أحد الخبراء الدستوريين، ابتكر نظاماً "رئاسوياً" جديداً، جمع فيه بين صلاحيات رئيس الحكومة في النظام البريطاني وصلاحيات رئيس الدولة في النظام الأميركي "ومن دون أية مسؤولية، لا سياسية ولا دستورية ولا جزائية". مثل هذا الدمج والصلاحيات يمكن أن يؤسس لما يمكن تسميتها "الديكتاتورية الدستورية"، فللمرّة الأولى بات لحكم الفرد المطلق إطار قانوني ودستوري، وهو ما يمكن أن يستلهمه طغاة آخرون ويسيروا على هديه.

حسام كنفاني
حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب مدير قطاع الإعلام في فضاءات ميديا، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية. يعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 25 عامًا، وهو من مؤسّسي موقع وصحيفة "العربي الجديد".