الدولة بين الشعب والجماعة... سؤال المرحلة السورية الراهنة

23 يناير 2025
+ الخط -

تتكشّف كل يوم صور الاهتراء الداخلي في البنية السورية، ليس فقط على مستوى الهويّة الوطنية والعقد الاجتماعي، بل وعلى مستوى الدولة بوصفها جهازاً استدعتْه الصيرورة التاريخية البشرية. قد تكون التجاذبات الطافية على السطح بشـأن الأقليات من جهة، أو حول الضحايا والمجرمين من جهة ثانية، أو حول الشرعية الدستورية أو الثورية من جهة ثالثة، أقلّ ما يشغل الناس الباحثين حالياً عن لقمة العيش، لكنها تؤشّر على حجم التذرّر والانقسام والتخبّط والضياع السوري العام بشكلٍ أو بآخر. لم يعد الانقسام السوري راهناً بين شعبٍ ونظام، فمع سقوط الأخير وجد الشعب نفسه أمام استحقاق تعريف ذاته، فزوال العدوّ الخارجي (النظام) حوّل الجبهة التي كانت شبه موحّدةٍ في عدائها له، ولو ضمنيّاً، إلى جبهات متعدّدة لكل منها ساحات معاركها وأهدافها الخاصّة. ليست هموم السوريين والسوريات حالياً واحدة، فالأولويات تتوزّع عند بعضهم وفق تسلسل سُلّم هرم ماسلو الشهير للاحتياجات. مع كسر أبواب السجون، لم تعد موجودة الدرجة الأولى المتمثلة بالاحتياجات الفيزيولوجية التي كان يحلم بها المعتقلون في صيدنايا وأقبية الفروع الأمنية، لكنّ بقيّة الأولويات لا تزال مُدرجة لدى فئات واسعة، فالسلامة الجسدية والأمان الأسري والصحي والوظيفي ليست بدهية مفروغاً منها. لقد أظهرت صور الانتهاكات من اعتقالاتٍ ومداهمات بيوتٍ وغيرها (فردية كانت أم ممنهجة)، وأظهرت قرارات العزل الوظيفي والحرمان من موارد الدخل والتعيينات في المسؤوليات العليا والوظائف المختلفة، أنّنا في سورية لم نتخطّ العتبة الثانية لهذا الهرم بعد. هل تستوي احتياجات القابعين في الخيام مع احتياجات أصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين؟

انتقاد الظاهرة ووصمها بالمؤامرة التي يحاول أصحابها تعكير صفو انتصار الشعب على النظام البائد، ليس أكثر من تغطية الشمس بغربال، وهي إنكارٌ للواقع لا أكثر، وهذا لا ينتج فهمًا له، بل على العكس، ينتج صورة مُتخيلة لتواجه الواقع الحقيقي، وبالتالي، يصبح الحلّ الوحيد الممكن هو الدوران في حلقة مفرغة وإعادة إنتاج آليات التفكير والعمل التي كرّسها النظام القديم ستة عقودٍ خلت. تبدأ إعادة الإنتاج من خلال تبنّي آليات التفكير والعمل التي كان يتبعها الخصم المهزوم، فحتى لو جرى القضاء على جميع مؤسّساته القمعية من أجهزة أمنية وعسكرية وحزبية، وحتى لو تم استئصال شأفة أزلامه وأعوانه، فإنّ استعمال نهجه ذاته مع تغيير اللون أو الشكل يعني إعادة إنتاج الجوهر ذاته.

تفصيل الدولة على مقاس الجماعة، مهما كبُرت هذه الجماعة، يعني نفيهما

عندما يجري تجاهل الأطر الدستورية التي تشكّل المستند القانوني للشرعية، وعندما يتمّ إدارة البلاد بالتوجيهات الشفهية، وعندما يتم إعمال مبدأ التغلّب، نصبح أمام إعادة تدوير النظام الذي ثار السوريون عليه. وحتى لو تجاوزنا النقطة الأولى السابقة، على أهميتها وخطورتها، نجد أنفسنا أمام المعضلة ذاتها في كل مفصل وتفصيل جديدين، فعندما تأتي الترجمة الفعلية لخطاب القيادة العليا معاكسةً للظاهر من منطوقها، نكون أمام إعادة تدوير للنفايات السامّة التي نخرت عظم سورية وأهلها. فماذا يعني اعتماد مبدأ الثورية أو مبدأ التديّن لتقييم المحامين أو القضاة، وماذا يعني استبدال الشيخ بأمين الفرقة الحزبية مرجعاً من الجهاز الأمني الذي يرفع تقييمات المرشحين للوظائف والمسؤوليات؟ أليس هذا هو نفسه النظام البائد بحلّة جديدة؟

ليست سورية غنيمة دسمة لمن يرغب بالسلطة أو بالثراء، بل هي حملٌ ثقيلٌ كفيلٌ بإحباط أعلى الهمم وهدّ أقوى العزائم. صحيحٌ أنّه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، لكنّ الخبز شرط للحياة في أساسها، فإذا انعدمت أسباب العيش أصلاً ما عاد يمكن الحديث عن شكل أو مضمونٍ أو تنوّع. وسورية الآن تفتقد كل أساسيات الحياة، ولن تدوم طويلاً مفاعيلُ البهجة والسرور بالتحرّر، ولن يكفي الحبّ كي نعمرها، وسيوجد من يزعّلها إن لم نتداركها قبل فوات الأوان. الوقت الآن متاحٌ للتفكير بعقل الدولة، لا بعقل الثورة أو بعقل الجماعة، فمن يريد إنقاذ البلاد من النفق المظلم الذي خطت أولى خطواتها خارجه، عليه أنّ يسمع أصواتاً غير صوته، وأن يفكر بأنّه مؤقتٌ وهي دائمة، وأنّه جزءٌ وهي كلّ. الدولة أكبر من أن تُدار بعقلية الجماعة مهما كبرت، وحتى لو كانت هذه الجماعة تنظر إلى نفسها على أنّها الأمّة. كالإمبراطوريات، تنتحر الدول عندما تتحزّب لقوميةٍ أو دين، فليس ثمّة شعبٌ خالصٌ نقيٌّ في هذين الانتماءين أو حتى في أحدهما. تصبح الدولة عدوّة ذاتها ومحيطها عندما تتقوقع على دينٍ أو قومية، وتصبح عدوّة شعبها، أو على الأقل جزءاً منه عندما تتبنّى أحدهما. كيف يمكن تصوّر دولة بصفة قومية أو دينية إذا كان شعبها من عدّة قوميات وأديان وإثنيات وطوائف ومذاهب؟ لا بدّ أن كل من هم من غير الدين الذي تبنّته أو القومية التي اعتمدتها سيشعر أنّه خارج هذه الدولة، وأنّها لا تمثله. قد لا يستتبع هذا شعوراً بضرورة الانفصال عند جميع هذه الفئات إذا لم تتوفّر عناصره أو ظروفه، لكنه سينتج حتماً شعوراً بالغربة في الوطن، ما قد يؤدي إلى الولاء للجماعة والانغلاق عليها والتعصّب لها، أو إلى الهجرة وقطع الجذور، وبالتالي الذوبان في المجهول.

سورية تفتقد كل أساسيات الحياة، ولن تدوم طويلاً مفاعيلُ البهجة والسرور بالتحرّر، ولن يكفي الحبّ كي نعمرها

تفصيل الدولة على مقاس الجماعة، مهما كبُرت هذه الجماعة، يعني نفيهما. نفي الدولة لأنّه نفيٌ لمقوماتها من حيث هي جهاز حيادي عادل لا صفة تلحقه من دين أو قومية أو عرق أو مذهب أو طائفة، ونفي للجماعة لأنها تحوّلها إلى أمّة من دون أن تكون قد حققت شروط الأمّة. عندما تسمح الجماعة الكبرى في دولةٍ ما لنفسها ببعض الاستثناءات في الدولة وتمنعها على جماعات أخرى مهما صغُرت، فإنّ ذلك يعني تميّزاً غير عادلٍ ولا منصفٍ تجاه الجماعات هذه والدولة ذاتها. مفهومٌ ومبرّرٌ شعور الفرحة عند المسلمين المتدينين الذين حرموا حقهم الصلاة في الجامعات والجيش وكل مكانٍ، عدا المساجد تقريباً، بعد زوال النظام، ومقبولٌ مرّة أو أكثر أداء هذه الشعيرة علناً في الساحات المفتوحة لتظهير هذا الحق والاحتفاء به، لكنّه يصبح اعتداءً على الدولة إن عُمّم على بقيّة الأديان وأتباعها لأنّه سيحوّل الجيش والجامعات والدوائر والمؤسسات إلى دور عبادة، ولأنّه سيكرّس الصبغة الدينية للدولة. كذلك سيكون اعتداءً على أتباع بقيّة الأديان إذا حرمهم من هذا الحقّ وأبقاه لغيرهم.

هذه بقعُ ضوءٍ صغيرة ومتناثرة نسوقها مثالاً عمّا يجب التركيز عليه، وفي تكثيفها وتوسيعها وزيادتها تتضح الصورة الشاملة. سورية الآن في بؤرة التركيز الدولي والإقليمي، وهي لن تتعافى بقواها الذاتية، ولا بقوى أهلها وحدهم، هي بحاجةٍ لكل يدٍ تُمدّ لها، وبحاجة لكلّ عونٍ يسندها. وهذا كلّه لن يتحقّق إذا لم تشمل بقع الضوء اللوحة السورية كاملة، وهذا لن يتمّ إلا إذا وسّعت الإدارة السورية الجديدة دائرة البيكار لتشمل سورية كلها بجميع ألوانها وأجزائها، ولن يتحقّق هذا إلا إذا ميّزت الجماعة نفسها عن الشعب الذي تنتمي إليه، وعن الدولة التي يجب أن تتّسع لكل أطياف هذا الشعب، وأدركت أنّها ليست وحدها الأمّة السورية، وليست وحدها الدولة أيضاً.

56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود