الدولة اليمنية: الحرب من الخارج والتدمير من الداخل

الدولة اليمنية: الحرب من الخارج والتدمير من الداخل

07 مايو 2021
+ الخط -

من خسارات كثيرة لا تُحصى خبرها اليمنيون، خسارتهم دولتهم أكثرها فداحة، إذ أن تشظيها وتفتتها، كيانا وطنيا اعتباريا شكّل الإطار العام الذي كان يدير حياتهم وينظمها، انعكس سلباً على حياتهم اليومية، بحيث طاولهم خرابها، فعلى الرغم من أن الهزّات السياسية التي تعرّضت لها الدولة اليمنية، عقودا، أضعفتها، وولّدت أزماتٍ عميقة داخل أجهزتها، نتيجة نقل القوى السياسية صراعها على السلطة إلى داخل مؤسسات الدولة، إلى أن أسقطتها جماعة الحوثي، فإن مآلات سبع سنوات من الحرب على الدولة اليمنية، أنتج واقعاً كارثياً، إذ قوّضت التكوينات الموازية للدولة التي كرّستها القوى المتصارعة ما تبقى من كيان الدولة، فضلاً عن تحويل أجهزتها السياسية والطائفية والمناطقية بديلاً لها، الأمر الذي يجعل إصلاح الضرر البنيوي الذي لحق بمؤسسات الدولة بالغ الصعوبة، فيما يدفع اليمنيون وحدهم كلفة خراب دولتهم، وذلك بتماسّهم اليومي مع التكوينات المشوّهة التي صارت إليها دولتهم.

اتخذ الاستهداف الممنهج للدولة اليمنية، طوال سنوات الحرب، صوراً متعدّدة، بدأ مع انقسام مؤسّساتها بين جماعة الحوثي والسلطة الشرعية، بحيث تعاطت معها بوصفها غنيمة حرب، إضافة إلى القوى المسلحة الأخرى وسلطات الأمر الواقع التي أصبحت بديلاً عن الدولة، كما عمدت هذه القوى إلى تخريب أجهزتها، واستغلال مرافقها العامة، ونهب أصولها، بما في ذلك الإجهاز على تركيبتها الإدارية وبنيتها الوظيفية. ومع اختلاف واقع مؤسسات الدولة من منطقة يمنية إلى أخرى، وذلك تبعاً لطبيعة السلطة الحاكمة، وكيفية إدارتها هذه المؤسسات، ومن ثم أثر ذلك على حياة المواطنين ومصالحهم، فإن هذه السلطات انتهجت طرقا مختلفة في تدمير مؤسسات الدولة، إما بتقويضها من الداخل وإبقاء هيكلها العام، مقابل إدارتها لصالحها، أو تنمية تكوينات موازية للدولة، أصبحت بعد سنوات من الحرب دولةً مصغّرة، مقابل نهب مؤسساتها وإفراغها من أدواتها، وفي مقدمتها كادرها الوظيفي، بحيث أصبحت الدولة ملحقة بأجهزتها، فضلاً عن الخصخصة التدميرية التي طاولت بعض المؤسسات الإيرادية، من خلال تأجير أصولها لعملاء من الباطن، على حساب مصالح المواطنين.

عملت جماعة الحوثي، وعلى مدى سنوات سيطرتها على العاصمة، على تدمير مؤسسات الدولة بشكل منهجي

يمثل واقع مؤسسات الدولة في العاصمة صنعاء نموذجاً فريداً لخراب دولة اليمنيين، والذي لا يقتصر على كيانها العام، بل يمتد إلى طبيعة عملها الوظيفي، إذ أن التدمير التراكمي الذي طاول مؤسسات الدولة قوّض كل مظاهرها، بحيث من الصعوبة إصلاحها، وربما يحتاج عقودا، فقد عملت جماعة الحوثي، وعلى مدى سنوات سيطرتها على العاصمة، على تدمير مؤسسات الدولة بشكل منهجي، في اتجاهين: الأول استهداف بنيتها التاريخية، بإفراغها من الداخل، وإقامة بنية أخرى. والثاني نهب أصول الدولة، بما في ذلك الاستحواذ على إيراداتها. ومع أن هذه السياسة تتقاطع مع تكوين الجماعة وتاريخها، بوصف هذه الجماعة نقيضا موضوعيا للدولة، صعدت على خرابها، إلا أن اللافت أن هذه السياسة الموجّهة ضد مؤسسات الدولة لم تكن ناشئةً عن الصراع في سلطة القرار بين أجنحة الجماعة وأجهزتها السياسية التي كانت الدولة مسرحا لها في السنوات السابقة، وذلك بعد حسمها السلطة، وإنما نتيجة آلية واضحة ومنظمة، تهدف إلى استنساخ تجربة حزب الله، عبر إنشاء دولةٍ مصغّرة داخل الدولة اليمنية، والتي أصبحت اليوم حقيقة واقعية، يلمس المواطنون فداحتها.

لم تكن تنمية "سلطة المُشرفين"، وهو مؤسسة موازية تتبع الحوثيين، وكيان هجين داخل مؤسسات الدولة، سوى أحد الوسائل التي اتبعتها جماعة الحوثي في تدمير بنية مؤسسات الدولة، بحيث انتقلت هذه السلطة في السنوات الأخيرة من موقعها سلطة رقابية آنية إلى سلطة تنفيذية عليا مطلقة الصلاحيات، لا تدير مؤسسات الدولة فقط وتسيطر على إيراداتها، بل وأصبحت هي من يوجه سياساتها، بصفتها دولة مصغرة داخل الدولة تتبع الجماعة، الأمر الذي أفقد مؤسسات الدولة طابعها المؤسسي، وأصبحت جهازاً يتبع الجماعة، ويدار من الخارج. كما أفضت سنوات إحلال جماعة الحوثي عناصرها من الطبقة الهاشمية في جميع مفاصل الدولة، وفي مستوياتها الدنيا والعليا، إلى تقويض الوظيفة العامة، فإضافة إلى صبغها بصبغة عقائدية، فإن معظم هؤلاء الموظفين الذين تم زرعهم في جهاز الدولة من خارج المؤسسات، إضافة إلى افتقارهم للتعليم، الأمر الذي أوجد جيشا من الموظفين العقائديين، تضخّم عبر هذه السنوات، ما شكل عبئا على جهاز الدولة، مقابل إزاحة الكوادر المؤهلة من التكنوقراط، كما انعكست هذه السياسة التدميرية سلباً على مصالح المواطنين، بل وعلى حياتهم. وربما تمثل اختلالات السلطة الأمنية والقضائية في مدينة صنعاء، ومعظم المناطق الخاضعة للجماعة، أحد الأمثلة الحية لما يتكبّده المواطنون من سوء معاملة وانتهاك، إذ أن زرع موظفين عقائديين غير مؤهلين في هذه المؤسسات، ومن غير أبناء الجهاز، ترتب عليه تفاقم مظلومية مئات آلاف من المواطنين الذين يخضعون لقنواتٍ غير شرعية، تنتهكهم وتصادر حقوقهم، سواء في إجراءات التقاضي في المحاكم، أو في أقسام الشرطة والنيابات العامة، حيث يتم سجن مواطنين أبرياء من دون إجراءات قانونية.

أنتج تشظّي الدولة المركزية، وتعدّد سلطات الأمر الواقع، وتحويل مؤسسات الدولة إلى ملكية لهذه القوى، إلى توسيع مساحة التدمير الذي طاول المؤسسات

ومن جهة أخرى، عملت جماعة الحوثيين على ربط هذه الكيانات التي أنشأتها داخل الدولة، بجهازيها الأمني والديني، بحيث أوجدت دولة مصغرة بوليسية طائفية داخل كل مؤسسات الدولة، يصعب تفكيكها في مرحلة ما بعد الحرب، فضلاً عن تفكيك الجماعة أصول مؤسسات الدولة، خصوصا المؤسسات الإيرادية، وتأجيرها لرجال أعمال تابعين لها، في سياق خصخصة غير رسمية، وربما يشكل واقع مؤسسة الكهرباء أحد مظاهر العبث بالمال العام، بحيث باتت مولدات الدولة مولدات الكهرباء التجارية التي أجّرتها الجماعة لتجار يتبعونها، مقابل استيفاء ضرائب شهرية منهم.

تتمايز الأنماط التدميرية التي طاولت مؤسسات الدولة اليمنية في المناطق المحرّرة، من حيث أثرها على بنية هذه المؤسسات، وعلى مصالح المواطنين، بما في ذلك نتائجها السياسية على المدى البعيد، ففي المناطق التي يحضر فيها نفوذ السلطة الشرعية، سواءً من خلال الأحزاب السياسية المنضوية تحت غطائها، أو من خلال القوى الاجتماعية الموالية لها، أصبحت مؤسسات الدولة أداة حزبية تنفيذية لسياستها، وإن مارست هذا النفوذ تحت مسمّى الدولة، إلا أنه شكل إضراراً بهذه المؤسسات وببنيتها ووظيفتها، وربما يشكل واقع مؤسسات الدولة في مدينة تعز مثالاً على ذلك، إذ نجح حزب التجمع اليمني للإصلاح في استهداف بنية مؤسسات الدولة، والتي لا تقتصر على تغيير جزئي لجهازها الوظيفي، وإنما في تحويلها إلى ذراع سياسية، بحيث أصبحت هذه المؤسسات سلاحا للتنكيل والإضرار بمصالح المواطنين، فضلاً عن الاستحواذ على أموال بعض المؤسسات الإيرادية.

اللادولة تعني الفوضى واللاقانون والعيش في ظل شريعة الغاب وأحكامها

إلى ذلك، أنتج تشظّي الدولة المركزية، وتعدّد سلطات الأمر الواقع، وتحويل مؤسسات الدولة إلى ملكية لهذه القوى، إلى توسيع مساحة التدمير الذي طاول المؤسسات، بحيث شكّل ملمحاً عاماً للخراب الكبير؛ ففي الساحل الغربي خضعت مؤسسات الدولة لسلطةٍ هجينةٍ متنافسة، أضرّت بهذه المؤسسات وبمصالح المواطنين، فإضافة إلى سلطة العميد طارق محمد عبدالله صالح، المدعوم من الإمارات التي تدير هذه المؤسسات وتعيّن الموظفين وتنال من مواردها، فإن التكوينات السياسية العسكرية الأخرى، كقوات العمالقة والمقاومة التهامية، تحضر في هذه المؤسسات، الأمر الذي جعل مصالح اليمنيين وحياتهم مرتهنة لصراع هذه القوى، وتجاذبها في مؤسسات الدولة. وفي اتجاه لا يختلف كثيراً عن هذا التدمير، مضى المجلس الانتقالي الجنوبي، المدعوم من الإمارات، خلال السنوات الأخيرة، إلى إنشاء كيانات موازية لمؤسسات الدولة في المناطق الجنوبية، وتحديداً في مدينة عدن وجزيرة سقطرى، عبر تنفيذ الإدارة الذاتية، إذ أن انخراطه في حكومة اتفاق الرياض، وإعلانه سابقا تعليق الإدارة الذاتية، لم يكبح جماح سياسته الموجهة ضد الدولة، حيث يحرص المجلس الانتقالي على الاستفادة من موقعه في السلطة، عبر اختراق مؤسسات الدولة، وإنشاء تكوينات موازية، من خلال هيئات المجلس، وإن كانت الآن تتخذ السمة الرقابية، إلا أن المجلس يهدف من هذه الخطوة إلى إنشاء نواة دولة داخل مؤسسات الدولة، بحيث تكون خطوةً في طريق سيطرته على الجنوب، بالعمل على تفكيك مؤسسات الدولة اليمنية الهشّة في المناطق الجنوبية، ما ينتج فراغا تملأه هيئات المجلس. ومع أن سياسة المجلس لا يمكن التكهن بمدى نجاحها على المدى الطويل، لتحدّيات عديدة، تتعدّى انحسار شعبيته في مناطق الجنوب، وفشله أيضا في تجربة الحكومة، إلا أن نتائج هذه السياسة في الوقت الحالي تتجاوز تضارب الصلاحيات بين جهازي مؤسسات الدولة وهيئات المجلس، إضافة إلى افتقار كادر هذه الهيئات الخبرة الوظيفية، وطابعها المناطقي، بحيث أضرّت بمصالح المواطنين في هذه المناطق، حيث تتقاذف مصيرهم ومظلومياتهم قنواتٌ متعدّدة متصارعة على الدولة وباسم الدولة.

اللادولة تعني الفوضى واللاقانون والعيش في ظل شريعة الغاب وأحكامها. اللادولة تعني أنك في اليمن لا تتكبد كلفة الحرب فقط، بل وكلفة ما آلت إليه الدولة، وهذا ما يعرفه اليمنيون بعد سبع سنوات من الحرب، وهم ينظرون إلى التشوّهات التي نمت من عمق خراب دولتهم وقوضتها، وإن ادّعت حمل اسمها، أو استعادتها عبر حروبٍ عبثية، فيما تتفنن جميعها في تعذيبهم ومصادرة حقوقهم.