الدولة المصريّة والتغيير بين القديم والحديث
(صلاح طاهر)
كلّما حلّت ذكرى ثورة 25 يناير وصولاً إلى ذكرى تنحي حسني مبارك تجدّدت مشاهد في الفضاءَين الإعلامي والافتراضي في مصر، إذ يظهر خطاب في الإعلام الرسمي يشنّ هجوماً حادّاً مشبوباً على ما جرى في يناير/ كانون الثاني 2011، ويصفه بأنه جزء من "مؤامرة" كبرى استهدفت إسقاط الدولة المصريّة، بينما يشهد الفضاء الافتراضي اندلاع مشاجرات طاحنة حامية بين عددٍ ممّن أُطلقَ عليهم "شباب الثورة"، تبُودلت فيها الاتهامات بالتخوين، والتراشق بشهادات مُكذَّبة بشهادات مضادّة، حول مساحة (وطبيعة) الدور الذي لعبه هذا الكيان أو ذاك، من تلك الكيانات الورقيّة التي حملت اسم "الائتلافات الثوريّة" التي ظهرت بغتة ثمّ ذابت بين عشيّة وضحاها، وذهبت أدراج الرياح وأمست نسياً منسيّاً، وفي عالمٍ موازٍ تخرج الأبواق الإعلاميّة لجماعة الإخوان المسلمين بخطاب يدين جميع الأطراف التي أجهضت تجربة الجماعة في السلطة، وكأنّ أداء الجماعة البائس كان مثاليّاً، وكأنّها لم ترتكب أي خطأ على الإطلاق أفضى إلى نتائج كارثيّة (!).
النقطة اللافتة في هذه المشاهد المُتكرّرة أن كلّ طرف ما زال مُتشبّثاً بمواقفه القديمة، ولم يتزحزح عنها قيد أنملة، وأن مرور نحو عقد ونصف العقد ليس كافياً لدى بعضهم كي يرى المشهد بصورة أوضح، ويُعيد النظر إلى الأمور بصورة تعكس قدراً من النضج والعقلانيّة، فمن شأن السنين أن تصقل العقول والأفهام بعد التخلّص من المؤثّرات المصاحبة للحظة وقوع الحدث، التي قد تُغشي الأبصار عن رؤية أمور واضحة كلّ الوضوح، وتعيق تقييم الأمر بصورة هادئة بعيدة عن الانفعالات.
بحسب نللي حنّا لم يتمكّن العثمانيون من السيطرة الكاملة على "أسرار" الجهاز البيروقراطي للدولة المصريّة منذ دخولهم مصر عام 1517 وحتى 1554
الأهمّ هنا أن ذلك الجدل المكرور يتجاهل حقائق تاريخيّة، عن طبيعة الدولة المصريّة وطريقة تعاملها مع أي تغيير، فهناك سمات تاريخيّة حملتها الدولة المصريّة في كلّ مراحل تاريخها، لا سيّما الوسيط والحديث، وإن الجهل بفصول التاريخ المصري كان سبباً أساسيّاً في المصير الذي آلت إليه فرصة التغيير التي لاحت في يناير/ كانون الثاني 2011.
غنيٌ عن البيان أن الدولة المصريّة أقدم دولة في التاريخ، وأنها راسخة رسوخ الجبال الرواسي، فلم تكن يوماً مُهدّدة بخطر السقوط عبر تاريخها الطويل، حتى في أشدّ فترات الاضمحلال أو وقوعها تحت الاحتلال، لم تواجه مطلقاً في أيٍّ من مراحل تاريخها شبح الانهيار أو التفكيك.
في هذا السياق، صدر أخيراً كتاب مهمّ للأكاديميّة والمؤرّخة المرموقة نللّي حنّا، الأستاذة في الجامعة الأميركيّة في القاهرة بترجمة مجدي جرجس "ما بين إمبراطوريتَين... مصر في القرن السادس عشر" (الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 2024)، يتناول تاريخ مصر إبّان تحوّلها من الدولة المملوكيّة إلى الدولة العثمانيّة، والتطوّرات التي شهدتها مصر في حينه. وفيه أن القرن السادس عشر شكّل نقطة تحوّل مهمّة لمصر، إذ تحوّلت مصر من أهمّ مركزِ إمبراطوريّة في الشرق الأوسط لنحو ثلاثة قرون إلى مجرّد إقليم تابع لإمبراطوريّة جديدة، وأن النهاية التي وضعها العثمانيّون للسلطنة المملوكيّة وللنُخبة الحاكمة من الأمراء كانت تعني تدفّق موارد البلاد الماليّة إلى مركز جديد خارجها، وهو إسطنبول.
جدير بالالتفات هنا ما ذكرته نللّي حنّا عن الجهاز الإداري البيروقراطي للدولة في مصر، والصعوبات الكبيرة التي واجهت الدولة العثمانيّة (كانت إمبراطوريّة عظمى في ذلك الوقت) من أجل السيطرة على الموارد الماليّة لمصر، بعد إطاحة الدولة المملوكيّة، والجهود الكبيرة التي بذلها العثمانيّون في سبيل الهيمنة على الجهاز الإداري للدولة المصريّة، فقد وجدوا أنفسهم أمام "نظام بيروقراطي هائل تقطّعت أوصاله بعد هزيمة المماليك" في موقعة مرج دابق عام 1517، بالإضافة إلى أن هذه "المنظومة وهيكلها الإداري كانت عصيّة على الاختراق من خارجها لأسباب مختلفة، فقد كان هذا الهيكل الإداري شديد التعقيد".
الأدهى ما ذكرته حنّا "أنه حتى عام 1544 كانت هناك جوانب رئيسيّة في موارد مصر غير مفهومة وغير واضحة للمسؤولين في إسطنبول"، ما يعني أن العثمانيين لم يتمكّنوا من السيطرة الكاملة على "أسرار" الجهاز البيروقراطي للدولة المصريّة 27 عاماً تقريباً، منذ دخولهم مصر عام 1517 وحتى 1554، واستطردت مؤلفة الكتاب في شرح طبيعة تلك الصعوبات، وأوضحت أنها واجهت أيضاً الحملة الفرنسيّة ثمّ محمد علي، وهذه النقطة جديرة بالالتفات إليها، إذ تكشف عن مدى تعقّد بنية الجهاز البيروقراطي للدولة في مصر وصعوبة السيطرة عليه، فقد عانى الفرنسيّون معاناة شديدة، من أجل الحصول على معلومات صحيحة عن ماليّة مصر، وقد كان المباشرون الأقباط يمدّونهم بمعلومات ناقصة أو مغلوطة، ما حجّم من قدرة الفرنسيين على السيطرة على موارد مصر الماليّة، كما أورد الجبرتي قصصاً مشابهة، ففي عام 1810 أمر محمد علي بأن المباشرين الأقباط الذين لن يرضخوا لرغبة الباشا في الإفصاح عن الأسرار الماليّة التي يحتكرونها، ستُحاصَر منازلهم وتُهدم وتُصادر الدفاتر التي يحتفظون بها في بيوتهم.
يثير الانتباه مدى قوّة الجهاز الإداري للدولة المصريّة ومدى تعقّد بنيته واستعصائه على محاولات التطويع والاختراق
خلصت حنّا إلى أن الانتصار العسكري الذي قاده السلطان العثماني مثّل مجرّد خطوة أولى في هذه المواجهات بين الإمبراطوريتَين، انتهت بانتصار العثمانيين وهزيمة المماليك. وبعد انتهاء العمل العسكري كانت هناك سلسلة أخرى من المواجهات على مستويات مختلفة، وبأشخاص مختلفين، وبأسلحة مختلفة، واستمرّت هذه المواجهات فترة طويلة على الصّعد البيروقراطية، والمالية، والتجارية، وأثّرت هذه المواجهات على شكل العلاقة بين المركز والإقليم، أي بين إسطنبول والقاهرة.
ما يثير الانتباه هنا، هو مدى قوّة الجهاز الإداري للدولة المصريّة، ومدى تعقّد بنيته واستعصائه على محاولات التطويع والاختراق، حتى عندما أتت قوّة دوليّة وأطاحت النخبةَ الحاكمة، وأفضت إلى وقوع مصر تحت الاحتلال، لم تجد الطريق مُمهَّداً مفروشاً بالورود، ثمّ جاء محمد علي ليؤسّس نسخة الدولة الحديثة بصورة أكثر تعقيداً... وهذا يستحقّ حديثاً آخر.