الدولة المصرية ومواطنوها في الخارج

الدولة المصرية ومواطنوها في الخارج .. البحث عن معاملة لائقة

21 اغسطس 2021

(أيمن صلاح طاهر)

+ الخط -

طوال السنوات العشر الماضية، كان المصريون العاملون في الخارج حصان طروادة للاقتصاد المصري، ومصدر التمويل الدولي الأكبر والأكثر استدامة والأقل كلفة، إذا ما قورن بالديون وعوائد قناة السويس وعائدات السياحة أو المنح والمعونات الإنمائية، إذ حول هؤلاء في العام 2020 ما يعادل 29,6 مليار دولار، وهو المبلغ المحصور بالطرق الرسمية فقط، ويفوق مجموع مصادر التمويل الدولي الأخرى للاقتصاد المصري، بينما جلبت ثورة يناير للمصريين في الخارج الحق في التصويت والترشح للبرلمان، وسعت إلى توسيع مشاركتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، غير أن السياسات المتبعة منذ عدة أعوام تثير استياء واسعا بينهم، بدءا بالمضاعفات المبالغ فيها لأسعار خدمات استخراج جوازات السفر، مرورا برسوم تصاريح العمل ورسوم توثيق الشهادات وتصديقها المبالغ فيها جدا، مقارنة بالسابق أو بالدول الأخرى ذات مستويات الدخل المرتفع جدا لمواطنيها عن مصر.

ولعل الترتيبات التي أعقبت جائحة كورونا، للتعامل مع العائدين من دول الخليج الوجهة الأولى للمصريين للعمل، تبدو مثالا واضحا على سوء التعامل مع هؤلاء المصريين الفارّين من البطالة وتردّي الخدمات العامة والساعين على أرزاقهم في أرض الله الواسعة، حيث واجه المصريون في دول الخليج أوضاعا قاسية، عندما قرّروا العودة إلى مصر، لتوقف معظم القطاعات الاقتصادية في الخليج، وتدهور أسعار النفط إلى حد غير مسبوق. واجه هؤلاء تنصّلا حكوميا من تحمل أية تكلفة لإجراءات العزل الإجباري في الفنادق أياما، ثم تدخلت الرئاسة لحل المشكلة حلا لم يعجب أغلبهم. وتعج وسائل التواصل الاجتماعي بمقاطع الفيديو الدالة على ذلك، بالنسبة للعائدين من الكويت والسعودية، سواء ما وجهوه من استغاثات في المطارات أو الفنادق المحتجزين بها. وليس الحديث هنا عن حالات فردية، بل عشرات الآلاف من الحالات التي عانت من هذه الإجراءات.

وعند اتخاذ دول الخليج إجراءاتها الصحية، لم يتم التنسيق الجيد بينها وبين الحكومة المصرية، لدعم عمليات عودة هؤلاء العاملين، وبقي كثيرون منهم عالقين عدة أشهر، سواء في مصر أو في بلدان الاستقبال، من دون مصادر دخل، ما أدّى إلى تآكل مدّخراتهم، بل وتوجه عديدين منهم نحو ليبيا، على الرغم من الظروف الأمنية التي ما تزال غير مستقرّة. وعندما طلبت دول الخليج تحليلاتٍ وفحوصاتٍ طبية للقادمين إليها، شاهدنا جميعا مشاهد الزحام الشديد أمام المراكز الطبية المختصة التي سافر إليها المصريون من كل المحافظات لإجراء التحاليل المطلوبة، بقيم مالية مبالغ فيها أغلى بكثير من أسعارها في دول المهجر، ثم تم اختراع خدمات الفحوص المستعجلة والـVIP بأسعار مبالغ فيها، وظل هذا الوضع شهورا قبل أن يتم في المحافظات افتتاح مراكز معتمدة لدى الدول التي يذهبون إليها.

ثم عندما وصلنا إلى مرحلة اللقاحات، واجه هؤلاء المصريون الراغبون في العودة إلى الخارج أزمة حقيقية تتمثل في عدم توفر اللقاحات، ثم توفيرها بأسعار مبالغ فيها أيضا، وفي مراكز محدودة للتلقيح وبالمزاحمة لذوي الأولوية من كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة، وترك هؤلاء ضحية للشركات السياحية التي حولت كثيرين منهم للسفر إلى دبي أو إسطنبول أو أديس أبابا وجهات ترانزيت، للوفاء بمتطلبات العزل 14 يوما في دولة أخرى، والتي اشترطتها معظم دول الخليج. وفي هذه المسألة مئات الحكايات عن طرق النصب التي تعرض لها هؤلاء من السماسرة وشركات السياحة غير المرخصة.

أغلب الدول تتطلب تأمينا للسفر بأسعار أرخص من السعر المطروح من الحكومة المصرية وشركة التأمين الحكومية التي تتعامل معها

وإذا كانت الحكومة المصرية حاليا ترى أن من غير المنطقي أن يظل سعر رغيف العيش ثابتا ثلاثين عاما عند خمسة قروش، وهو زعم غير صحيح، إذ تم التحايل عليه مرّات، بتخفيض وزن الرغيف، فإن من غير المنطقي تماما أيضا أن يكون تصديق الشهادة الواحدة في أي من القنصليات المصرية لطالب مصري في الصف الأول الابتدائي يزيد على مائة دولار، على الرغم من أن القنصليات تقول إن السعر الرسمي لهذه المعاملة نصف هذا المبلغ، وهو أيضا مبالغ فيه مقارنة بمختلف قنصليات العالم، بدعوى أن الشهادة صفحتان، وهذه كلفة أعلى من كلفة العام الدراسي الكامل بالتعليم الحكومي في معظم الدول المستقبلة لهذه العمالة التي تدهورت أجورها وأوضاعها نتيجة الإجراءات الصحية والأوضاع الاقتصادية في دول الاستقبال.

وبدلا من تطوير خدماتها للتأقلم مع الجائحة بالتحوّل إلى الخدمات الرقمية، مثلما هو الحال في معظم السفارات والقنصليات، فإنها اكتفت بنشر استمارة للحصول على موعد لإجراء المعاملات لا مثيل لها، وأقل ما يقال عن مضمون المعلومات المطلوبة فيها أنها استمارة جمع معلومات لجهةٍ أمنيةٍ للترصد والتتبع على طريقة المخبر صاحب الجورنال (الصحيفة) المخروم على مقاهي وسط البلد في القرن الماضى، فأغلب البيانات المطلوبة لا علاقة لها بالطلب، بل تسأل عن طبيعة العمل والعنوان مفصلا، والاسم على صفحات مواقع التواصل والبريد الإلكتروني الذي لن تستخدمه السفارة أو القنصلية أبدا، وإذا ما تجاوز المرء عن هذه الإجراءات، فإنه سوف يحصل على موعد بعد أسبوع من طلب المعاملة، وسوف ينتظر ثلاثة أيام عمل أخرى، ليحصل على تصديق ورقته إن كان سعيد الحظ، وورقته انتهت، أي أنه مطالبٌ، أيا كان موقعه، بالذهاب والإياب مرتين وربما أكثر إلى السفارة أو القنصلية لإنهاء إجراء شديد البساطة، وبعد تقديم كومة أوراق في دورة مستندية، طويلة جدا بمعايير قنصليات الدول المماثلة وسفاراتها، ويطلب منه معلومات مفترض أنها لدى الجهات المختلفة، وكأنه لا تنسيق بين وزارات القوى العاملة والخارجية والداخلية والهجرة.

تضاعف الدولة أسعار الخدمات المقدّمة إلى ملايين المصريين في الخارج بمعدلات جنونية

ليس الحديث هنا عن آلاف الحالات من أصحاب الجوازات المرفوض تجديدها لأسباب أمنية وسياسية في المقام الأول، ولا عن المدد التي تأخذها الجوازات التي انتهت، ولا يوجد مشكلة في إصدارها ويتردّد أصحابها عشرات المرّات للسؤال عن موعد الحصول عليها أو على إجابة عن سر تأخرها من دون مجيب، وما يترتب على ذلك من أوضاع صعبة لأصحابها، سواء في العمل أو الحركة في البلد المستضيف، وتعطل أشغالهم وغرامات المخالفات والتهديد بالترحيل والخصومات من أجورهم جرّاء هذه الأيام الضائعة في رحلة البحث عن أوراقٍ يفترض أنها تستخرج إلكترونيا وتصل بريديا، في أحيانٍ كثيرة، ولا تتطلب حضورا إلا في الحدود الدنيا، ثم تأتي أخبار التأمين الإجباري على المسافرين، لتضيف تكاليف إضافية. وعلى الرغم من أنها خطوة جيدة في ظاهرها، إلا أن أغلب الدول تتطلب تأمينا للسفر بأسعار أرخص من السعر المطروح من الحكومة المصرية وشركة التأمين الحكومية التي تتعامل معها.

في التحليل الأخير، من غير المنطقي أيضا أن تنفق الدولة المصرية ما بين 21 إلى 25 مليار جنيه (مصري) من جيوب المصريين على دعم حفنة من المصدرين خلال العامين الماضيين، من دون تطور كبير في أرقام الصادرات، في حين تجادلنا بأنه لا توجد موارد، وترفع أسعار الخبز في الداخل وتضاعف أسعار الخدمات المقدّمة إلى ملايين المصريين العاملين في الخارج بهذه المعدلات الجنونية، من دون أن يتلقوا أية خدمات عامة، ومن دون أن يعاملوا بالمعاملة اللائقة في أغلب الأوقات، بل تتعامل هذه الحكومات مع المستثمرين الأجانب بتعديلات قانونية شبه سنوية، تحمل تسهيلات كبيرة، وهي على أهميتها، مجموع صافي الاستثمار الأجنبي المباشر في السنوات الخمس الماضية لا يوازي تحويلات المصريين في عام واحد، فلماذا لا يحظى هؤلاء بتسهيلات الشباك الواحد والمعاملات الإلكترونية وانخفاض أسعار الخدمات المقدّمة والإجراءات المبسّطة؟