الدولة العراقية لن تنقذها إعادة الانتخابات

الدولة العراقية لن تنقذها إعادة الانتخابات

06 اغسطس 2022
+ الخط -

يدعو الزعيم العراقي، مقتدى الصدر، في خطاب له بمدينة النجف، إلى إلغاء نتائج الانتخابات النيابية التي انتظمت في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وللمكان رمزيته وتأثيره على المعتصمين وانتمائهم الديني. وطالب الزعيم الشيعي العراقي بحل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، وكأنه المعني الوحيد بالشأن العراقي، أو أن المعضلة كلها هي في العملية الانتخابية. ويستند الصدر، في موقفه ودعوته، إلى أن هذا ليس صراعاً من أجل السلطة، ملمحاً إلى إمكانية عدم مشاركة تياره في الانتخابات الجديدة. ومنذ عشرين سنة والعراق على راهنه، كارتيلات للسلطة، سلاح منفلت، جماعات مسلحة تُغير على الأخرى، حتّى الأضرحة والمزارات الدينية تحوّلت إلى ساحات لتصفية الحسابات، نتائج انتخابية لا تُعجب الخاسر، فيجري الحديث عن إعادة إجرائها، وكأن القضية ستنتهي بمجرّد إقامة انتخاباتٍ جديدة، فما دامت الدولة مغيّبة، فلا أمل في أي نظام سياسي، بما فيها لو فازت كتل سياسية جديدة كلياً. فاز الصدريون في الانتخابات، ثم انسحبوا من البرلمان، وتوجهوا إلى الساحات والشوارع وحصار المنطقة الخضراء واقتحام البرلمان، ما يعني أن الطريق طويل جداً، فهم أيضاً جزء من نظام المحاصصة، لكن ربما بعيارٍ أقل وأخف، وفي ظل فشل تشكيل الحكومة الجديدة؛ الصراع الحزبي الشيعي الداخلي في أوجه، ولا بوادر لحل الأزمة، بل إن الإعلان عن دولة وجمهورية قوية يبدو مؤجلاً إلى حين بعيد، هذا إن لم يحصل انقلاب عسكري.

يتّجه الوضع العراقي صوب مزيد من التصعيد واحتمالية انفجاره في أي لحظة، وهذا ليس مستغرباً؛ فالانسداد السياسي متجذّر في الفضاء السياسي العراقي العام بكل مناحيه، والأزمات بدأت منذ بداية تولي هذه النخبة السياسية السلطة، حيث سعى أول رئيس للحكومة المؤقتة، إبراهيم الجعفري، إلى البقاء ولاية ثانية، على الرغم من أن النواظم القانونية لم تكن تجيز له ذلك، علماً أن مهمته حُدّدت بالتمهيد لإجراء انتخابات وأعضاء دائمين لمجلس النواب، وأمام إصراره على ولاية أخرى جرى التوافق على نوري المالكي لتولي الحكم، لتذهب الكتل السياسية للصراع على وزارتي الداخلية والدفاع، لتتعمّق المحاصصة مع إحالة وزارة الداخلية للشيعة والدفاع للسنة. ولم يتمكّن المالكي من السيطرة المطلقة على الحكم، فغريمه إياد علاوي لم يقبل بحصصه الوزارية وفقاً للاستحقاق الانتخابي، كما كان يقول. عمّق صراع الدماء أكثر القتال بين القوة العسكرية العراقية وجيش المهدي، والذي شكل أبرز تهديد أمني على توفير البيئة الآمنة، إلى حين تدخُّل القوات الأميركية في عملية سُمّيت حين ذاك "صولة الفرسان". وبعد شد وجذب لخمسة أشهر، رأت حكومة المالكي الأولى النور وسط خلافات وتجاذبات سياسية عميقة هدّدت أركان الدولة العراقية، ليتأخر الإعلان عن ولايته الثانية قرابة السبعة أشهر للأسباب نفسها، ولم يتمكّن من تولي رئاسة الوزراء للمرة الثالثة، والتي كلف حيدر العبادي بتشكيلها، والتي امتازت بأسوأ وزارة وحكومة مقارنة بغيرها من حيث الخدمات والخلافات السياسية، والأكثر بؤساً بين الجميع كانت وزارة عادل عبد المهدي التي لم تكمل عامها الأول؛ نتيجة اندلاع الاحتجاجات ضدّها، ليجري الاتفاق على مصطفى الكاظمي الذي انتهت ولايته منذ إجراء الانتخابات في أكتوبر/ تشرين الأول، ثم لم يكتمل عقد الحكومة الجديدة تسعة أشهر ولم تتفق الأطراف على انتشال العراق من دمائه، هذا هو العراق، صراعٌ على الحكم، وغياب للدولة، وسيطرة للدولة الموازية.

أول حقل ألغام زرع في العراق، ولا يزال العراقيون يدفعون ثمنه، هو مجلس الحكم المتشكل على أساس غير رصين

لوحة الخلافات التي لا تخرج في عمقها وصلبها من الصراع الداخلي والتدخل الخارجي تعيدنا إلى البحث في وجود الدولة من عدمه بالمفهوم السياسي منذ بداية الشكل الجديد للعراق، فحين أسقط الأميركيون عام 2003 النظام العراقي القائم منذ 1968، فرضوا نظاماً سياسياً بديلاً، لكن من دون إقامة دولة قوية وذات سيادة، حيث جرى حلّ مؤسساتها، وخصوصاً الجيش والأجهزة الأمنية العراقية. وتم تشكيل مجلس حكم هو في صُلبه لم يخرج عن نظام المحاصصة، فأنهى الدولة من جذرها، وحلَّ عوضاً عنها نظام المكونات وصراعاتها. وفي ظل اللاوجود للدولة، استغلّ النظام السياسي لمبدأ "تسمين" الفرق والأحزاب المذهبية لقوتها ومناطق نفوذها، على حساب العراق وهيبته والعراقيين ومصالحهم، وتالياً أصبح العراق كمفهوم دولة يُشبه شبكات العالم الافتراضي، حيث يوجد اسم "دولة العراق"، لكنها كانت ساحة تصفية حسابات بين مختلف الفرقاء الحزبيين. ويُمكن القول إن أول حقل ألغام زرع في العراق، ولا يزال العراقيون يدفعون ثمنه، هو مجلس الحكم المتشكل على أساس غير رصين، فإذا كانت المقدّمات كارثية، فكيف والحال مع النتائج إذاً. ومنذ عشرين سنة، لا تزال الدولة مغيبة، ويجري تقزيمها في كل محطة سياسية، ويستمر نظام المحاصصة الطائفية بعدم السماح للعراق دولة أن تنهض، خصوصاً أن الطبقة السياسية الحالية هي المدماك والعمود الفقري لذلك النظام، أيّ إن من يتحدثون عن الحلول ومفهوم الدولة هم أنفسهم من عمّقوا من طبيعة النظام الموجود، وكأن لسان حالهم يقول: فلتوجد حكومة، لكن الدولة لا مانع من فقدانها.

النخب السياسية حوّلت السلطة إلى إقطاعيات ومزارع خاصة لها

ثمّة بوادر صدام شيعي - شيعي تلوح. وفي المقابل، لا يزال السنة منهكين بمدنهم المدمرة ومجتمعهم المتعب من ضربات تنظيم "داعش" والانفجارات وغيرها، والساسة الكرد منقسمون ما بين حماية إقليمهم من الصراعات المذهبية والاعتماد على "الإطار التنسيقي" في تعزيز رئاسة برهم صالح العراق، والخلاف بين الحزبين الرئيسيين في كردستان يلقي بظلاله على مستقبل العملية السياسية كاملة، وإن كان "الديمقراطي الكردستاني" مستعداً للتنازل عن مرشّحه لقاء مرشح توافقي بينهما، لولا الإصرار على إعادة تدوير حكم برهم صالح الذي لم يستفد الإقليم بشيء خلال فترة ترؤسّه العراق.

وتسعى مرويات "الإطار التنسيقي" إلى الخروج بأدبيات جديدة، في جذرها عاطفي ونفساني، وليس لها علاقة بالبعدين، السياسي والميداني، حيث تقول تلك المرويات إن الكل مذنب، وهي دعوة إلى الذنب الجماعي كأفضل حيلة للخلاص من الجريمة والعقاب أو شمول الجميع به، ثم الحديث عن ضرورة حماية العراق وسيادته. خطاب النخب السياسية العراقية عن السيادة الوطنية مستفزٌّ بشكل كبير للمواطن العراقي، فإيران قصفت أربيل، وتركيا قصفت زاخو في إقليم كردستان العراق، ولم يتمكّن "الإطار التنسيقي" ولا تحالف قوى السنة من إصدار مذكرة احتجاج أو موقف مشرّف، ولا يُمكن فصل السيادة الوطنية عن حماية المواطن العراقي داخلياً، فتسريبات المالكي أنهت أي إمكانية توافق سياسي جديد أو الحديث عن السيادة الداخلية، فهو الداعي إلى "نريد دماً"، وهي العبارة التي وردت في أحد التسريبات الصوتية للمالكي. وربما يأتي يوم ويزول مفعول تلك التسريبات، لكن مفردة "الدم" مفتاحية لمن يود حكم العراق ويحدد نوع العلاقات وطبيعتها، خصوصاً في ظل الاستعصاء الذي يشمل الجميع. وبذلك، بعد أن تحوّل العراق من مفهوم الدولة إلى الاقتصار على حكومة محاصصة، تحوّل الآن إلى ساحة مفتوحة على كل الاحتمالات، ومع استمرار الصراع الحالي، فإن أياماً عصيبة تنتظر هذا البلد.

لا بوادر لتغيير عقلية إدارة البلاد، فالدولة مهمّشة وضائعة

وفي ظل استمرار طبقة النخب السياسية التي حوّلت السلطة إلى إقطاعيات ومزارع خاصة لها، تمكّنت في إجهاض مفهوم الدولة العراقية تطبيقاً ومؤسّسة، ونجحت التحالفات السياسية والكتّل الحزبية العراقية في تمييع بذور الديمقراطية الوليدة مع سقوط النظام العراقي الأسبق، وعدم تحويلها إلى واقع معاش في بغداد، وتمكّنت من تمييع الانتخابات وإفشالها، وهي التي تمثل التطبيق والفاعل الأبرز للديمقراطية، إلى درجة أن أيّ كتلة سياسية منهزمة لا تحتاج سوى للسلاح المنفلت، ليكون بمقدورها إيقاف العملية السياسية. وتالياً، التمثيل والعدالة اللذان يأتيان عبر صناديق الاقتراع في العراق أوجدا أسوأ أنواع النمطيات، ورسّخا أخطر نماذج التوافق؛ لأن أحجام القوة لا تقاس على أساس عدد المقاعد البرلمانية، بل بحجم السلاح وحجم السلطة الموازية للسلطة وموازين القوى على الأرض، لذا لن يغيّر نجاح أي طرف في تشكيل الحكومة من معادلة الحكم في العراق، والتكتل السياسي الموجود هو تحالف طائفي مع القوميات، أي سني +شيعي+كردي، وهي صورة طبق الأصل لدى الطرفين، الإطار التنسيقي – مقتدى الصدر، أي إنه صراع للسيطرة والنفوذ وتنفيذ مشاريع تختلف في جوهرها وأهدافها.

إعادة الانتخابات ليست سوى إعادة إنتاج الخطاب نفسه، وربما الجديد الوحيد أن يكون بألسن جديدة، فلا بوادر لتغيير عقلية إدارة البلاد، فالدولة مهمّشة وضائعة. وحتى لو جرت إعادة الانتخابات، فالقضية لا تحل بالتوافق على الرئاسات الثلاث، فالأزمة العميقة للعملية السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية هي أبرز حواضن الفشل والفساد، ومع استحالة إلغاء ذلك النظام بسبب "حملة السلاح" لدى كل طرف وطبيعة الدستور الموجود وحقوق المكونات والتعدّدية القومية في العراق. ربما حان الوقت للإتيان بنظام سياسي وشكل جديد للدولة فهذا خيار أنجع أمام تهاوي مسارات الحفاظ على الدستور والسلم الأهلي.