الخطر الجاري الذي يهدّد مستقبل سورية

10 فبراير 2025
+ الخط -

رغم أن الحلّ السياسي في سورية كان الكلمة المشتركة لكل المشتغلين بالوضع السوري، فإن الحلّ العسكري هو ما تحقق، وبطريقة حذفت النظام السابق دفعة واحدة من المعادلة، وجعلت الفصائل الإسلامية صاحبة اليد العليا في كامل سورية، ما عدا مناطق سيطرة قوات سوريا الديموقراطية (قسد) التي تشكل اليوم القوة العسكرية الوحيدة في مواجهة إرادة الحاكمين الإسلاميين الجدد.

مَن يقول إن الحل السياسي في سورية لم يكن إلا ضرباً من الوهم، سوف يجد الكثير مما يدعم قوله. وأهمُّ هذا الكثير أن نظام بشّار الأسد لم يكن قابلاً للتلاؤم مع أي حل سياسي ينطوي على مشاركة جدّية في السلطة. وقد كان الكلام عن "الحلّ" السياسي مجرّد لغوٍ على ألسنة الفاعلين الدوليين، يشبه الكلام عن "حلّ الدولتين" في فلسطين مثلاً. في الحالتين، هو تغطية دبلوماسية على عجزٍ يسبّبه تعقيد الواقع أو غياب الإرادة السياسية في الحل لدى القوى ذات التأثير الفعال في الواقع.

الطريف في سورية أن الطرف الذي رفض، على طول الخط، الحل السياسي، ولم يتقدّم طوال سنوات الصراع بأي مبادرة سياسية مهما تكن، وتعامل بلا جدّيةٍ مع كل المبادرات السياسية التي طُرحت، من موقع المعرقِل والمماطل، هو النظام السابق الذي كان يثابر على مراكمة أسباب انهياره، فيما هو يعتقد أنه مقبلٌ على حسم عسكري في صالحه، بوصفه "الدولة".

بناء الدولة الجديدة جارٍ على قدم وساق، وفق عصبية إسلامية لا تطابق الوطنية السورية

لو افترضنا أن القوى الخارجية المؤثرة اتفقت وأرادت فعلاً، في لحظة ما، دخول الأطراف السورية في عملية تفاوض من أجل حل سياسي، فالراجح أن الحل سيكون هشّاً، وأن السلطة ستكون معاقة ومعطَّلة بفعل تنافر القوى المجبَرة على التفاوض والتوصل إلى حل وسط. والراجح أن النظام السوري الذي سيكون حينها طرفاً رئيسياً في الحل، حسب قرار مجلس الأمن 2254، لن يكفّ عن السعي، عبر ما يمتلكه من قوة في أجهزة الدولة (الجيش والأمن)، إلى تهميش القوى الأخرى وتحويلها، في أحسن الأحوال، إلى أطرافٍ بلا تأثير في "جبهة وطنية" جديدة. على هذا، كان الصراع بين القوى الرئيسية الفاعلة على الأرض سينتقل من كونه بين مناطق سيطرة بحدود معينة إلى كونه صراعاً داخلياً ضمن الدولة. ومن الممكن، أو الراجح حتى، أن مثل هذا الواقع القلق يهيئ ويبرّر ظهور "رجل انقلابي قوي" يحسم الأمر داخل الدولة، ويريح الناس من استمرار الصراعات الداخلية ومن شلل الإدارة، وقد يلقى ترحيباً شعبياً غير قليل. الاحتمال الآخر أن يقود هذا الواقع إلى تفجّر الدولة، كما نشهد في ليبيا واليمن، والعودة إلى الصراعات المسلحة وسلطات الأمر الواقع المتفاصلة. هذا فضلاً عن أن المناطق التي سيطرت عليها سلطات الأمر الواقع سنوات سيكون اندماجها الوطني معاقاً بفعل صراعات "ممثليها" داخل الدولة الجديدة، وبفعل التأثيرات الثقافية والسياسية المتباينة فيما بينها زمناً طويلاً.

يعطي ما سبق الحسمَ العسكري الذي حصل في سورية أفضليةً من ناحية أن تحطيم الدولة السورية التي كانت مبنية على ما يلائم سيطرة طغمة الأسد، يعطي فرصة نادرة للبناء على أرضٍ جديدة، وبأقل قدر من القيود. وقد عزّز هذه الأفضلية واقعُ أن الشعب السوري، في غالبيته، كان مرحّباً بهذا الحسم، سيّما أنه كان بقدر محدود جداً من الضحايا، قياساً على ما كان يمكن تخيله من تكاليف الحسم العسكري. الواقع أن غالبية كاسحة من السوريين ارتاحت، ليس لأنها تخلّصت من القصف والعمليات العسكرية التي لم تتوقف بوتائر مختلفة خلال السنوات الماضية فحسب، بل لأنها تأمل أيضاً ببناء نظام سياسي جديد مغاير.

إذا نام السوريون على فراش الاطمئنان، وحققت السلطة الجديدة ما نعتقد أنها تسعى إليه من بناء أجهزة القوة في الدولة على هواها، سيكتشفون لاحقاً غربتهم عن الدولة الجديدة

غير أن الخطر الأهم الذي يتهدّد سورية المستقبل يتم اليوم على يد الفصائل نفسها التي أنجزت الحسم العسكري. نعم الخطر الأكبر يأتي ممّن خلّص سوريا من البلاء الأكبر. فبدلاً من الاستفادة من تلاشي قوات النظام السابق من أجل بناء الدولة بناء وطنياً على أرض نظيفة، اختارت هذه القوى البناء المتحيّز أو حتى الحصريّ لصالح الإسلاميين، من خلال بناء الجيش من الفصائل أساساً، وهي فصائل ذات ولاءات فرعية وذات تعبئة إيديولوجية وسياسية لا تتناسب مع بناء جيش وطني بعيد عن الاستقطابات السياسية، فضلاً عن أنها لا تمثل التنوع السوري، القومي والديني. الأمر الذي يهدّد بأن يكون جيش سورية المستقبل مفكّكاً بسبب عدم تحرّره من الولاءات الفصائلية، أو غير مستقلٍّ عن السلطة الحاكمة، إذا تمكّن زعيم ما أن يدمج الفصائل فعلاً وينال ولاء الجيش، فننتهي تماماً إلى ما كان الحال في ظل الطغمة الأسدية التي كان لرأسها سيطرة تامة على قوى الجيش والأمن، إلى الحدّ الذي ترافق فيه فرار رأس النظام مع انهيار هذه القوى. ينطبق الكلام عن الاستئثار بعملية بناء الجيش على بناء قوى الأمن الداخلي، بطبيعة الحال.

يجعل هذا الحال الكلام عن التشاركية السياسية وعن كتابة الدستور وعن المؤتمر الوطني... إلخ، قليل المعنى والأثر. الواقع أن بناء الدولة الجديدة جارٍ على قدم وساق، وفق عصبية إسلامية لا تطابق الوطنية السورية، وهذا سيجعل السلطة الجديدة، بعد فترة، إذا نجحت في دمج الفصائل الإسلامية وكسب ولائها، في موقع لا يُنازع، وسيجعلها "أبدية" تجود أو تضنّ على الغير بما "تملك". إذا نام السوريون على فراش الاطمئنان، وحققت السلطة الجديدة ما نعتقد أنها تسعى إليه من بناء أجهزة القوة في الدولة على هواها، فإنهم سيكتشفون لاحقاً غربتهم عن الدولة الجديدة أيضاً، وسيذكرون قيمة المثل العربي "عند الصباح يَحمَدُ القومُ السُّرى".

ويبقى السؤال الثقيل: هل يمكن وقف هذه العملية الاستئثارية في بناء أجهزة القوة في الدولة؟ وهل يمكن بناء جيش جديد سوى من الفصائل التي حققت "النصر"؟ هذا ما ينبغي التفكير فيه اليوم، وهو سابقٌ على الانشغال في الخطوات المستقبلية، الانشغال الذي يوحي كأن ما يجري اليوم من تشكيل العمود الفقري للدولة، الجيش وقوات الأمن، أمر لا شأن للسوريين "غير المحرِّرين" به.

F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.