الحياة قنصاً وانتباهاً
(بول كلي)
كان الرجل البدائي يمشي في الغابات بحربته باسماً أحياناً، ومحدّقاً بطيبة الواثق في الأخطار. كانت الأخطار في الغابة مألوفةً له، وقد سمع عنها وعن أفاعيلها من الجدود والجدّات ورفقاء الغابة، ولكنّه واثقاً من حربته كان يمشي باطمئنان، خاصّة أن القبيلة الصغيرة له هناك خلف ظهره، وما زال يسمع قرع طبولها.
كان القمر في الليل هناك يحرس خطواته، وفي النهار يتدارى من الشمس بظلّ الشجر، ولا توجد حينئذ نشرات أخبار، ولا وكالات أنباء تكذّب أو تصدّق، كانت الأذن وانتباهها والعين وفراسة النظر وقراءة الأثر مع الحربة هم سريته وجنوده، حتى وإن تكاثفت الغيوم والظنون.
بالطبع، كانت هناك أخطار حروب ما بين القبائل والمجموعات الصغيرة، علاوة على بقيّة أخطار الغابة، وحتى الكون نفسه بأهواله، كان يصنع له المخاوف في الكوارث والسيول والزلازل والبراكين وبعض الحرائق، بعدما بدأ الإنسان يكتشف النار وسحرها، وتأثيرها في الجماعات في عوالم الغابات، حينما بدأ البدائي يعرف لذّة الأكل بعد نضجه فوق تلك النار، لاحظ أننا مازلنا في الغابات ولا نتكلّم عن الخلجان أو حدائق الورد والممالك، التي أصابها النعيم، واستقرّت بعض الشيء عن بقية الناس والجبال والغابات.
كان سحر الموضة ما زال بعيداً بُعد الشمس، ومصانع الأسلحة كان أمرها مضحكاً وبدائياً، ولا سماسرة حروب ولا بورصات ولا نجوم سينما، ولا إعلانات عن عطور أو هجمات على قوافل للتوابل كانت آتيةً من الشرق، ولا طريق رأس الرجاء ولا اكتشاف قارّات جديدة، ولا مراكب محمّلة ببذور القهوة أو أوراق الشاي، كانت حتى البحار هادئةً، والسلاحف في أمان تسند بيضاتها أمام عين الشمس تحت رمال الشواطئ، فتعود بعد أن تكبر (أو تشيخ) إلى الغابة. كان الرجل البدائي فقط يؤمّن مدخل كهفه ليلاً ببعض الأحجار، وببعض أشجار الغابة.
كانت المواثيق ما بين الجماعات والقبائل قليلة العدد ونادرة، ولكن تحفظها العين، وأحياناً تُكتَب على الحربة كي يتذكّرها الخصم إن زادت أطماعه وتعداد القبيلة، كان الانتباه يتم بلا صناعة حدود، وإن صنع الحدّ يكون مُقدّساً، حتى وإن ذهبت القبيلة إلى مكان آخر، بالطبع كانت النجوم تتدخّل في صنع الحدود، والمنجّمون حينئذ هم من ترتضي القبائل أحكامهم كالأمم المتحدة الآن، ولكن الأمر كلّه كان يتم في جلسة واحدة تأخذ دقيقةً أو أكثر، وبالطبع لم يكن من تلك القضايا من يسمّم النهر، أو أيّ تهديد بقنبلة نووية تُفني الأخضر واليابس والناس، أو رمي سلعة في عرض البحر لجني مزيدٍ من المال للشركات.
كانت الرموز وبعض اللغات القليلة المرتبطة بالريح والأمطار والفصول والأشجار والنباتات والسيول الجارفة، تُحفظ في لفافات في أكواخ مؤمّنة، من دون أن تفضَّ أختام سرائرها قبيلة أخرى أو جهاز مخابرات من غابة أخرى، لأنه حسبما يظنّ الواحد كان سرّ كلّ قبيلة في كهف هو بمثابة شرف هذه القبيلة في تلك الغابة، ومن العيب والعار بالطبع أن يُفَضَّ سرّ ذلك الشرف، كما يحترم الآن (ولو مجازاً) خطّ سير السفن والطائرات ومسيّرات مهرّبي المخدرات في الجبل الوعرة ببغلاتهم الآن، ولو مجازاً أيضاً.
بالطبع لم تغدرهم البورصة في أموالهم داخل البنوك، لأن بنوكهم كلّها كانت تتبع حرباتهم، وما يتم صيده أو تخزينه لمواسم الجفاف. وبالطبع لم يكن عندهم مشكلة في الدولار، لأن الدولار لم يكن قد طُبِع بعد، ولو رأى أحدهم في الأحلام الدولار الحالي لتصوّره شيطاناً جاء كي يسرق دوابه ودواب القبيلة.
الإنسان البدائي يصدّق طالعه ونفسه ونجومه وحربته وكوخه وحظّه، لو كانت عنده معرفة بقراءة الحظّ، ويصدّق العافية في عيون قطعانه. الإنسان الحالي تكفيه فقط قراءة رصيده من ورقة بنكية تخرج من حنك آلة البنك، فيبتسم أو يكفهر، ولا ينظر بالطبع، لا إلى النجوم ولا إلى صحّة قطعانه، وأحياناً يشكو العوز بلا عوز، وتراه أحياناً يمشي وحيداً، وقد اختار قارّة أخرى غنيّة، كي يربّي فيها بقية أيّامه وأمواله، رغم أنه يعرف تمام المعرفة أن أيّامه قليلة، ولكنّه الأمل الذي دائماً يطير من بلادنا إلى هناك، ولا نمسكه حتى نموت.