الحياة صالة مفتوحة

28 ابريل 2025

(رافاييل بارادا)

+ الخط -

ألتقيه مصادفةً رغم أننا نسكن في العمارة نفسها التي أعيش فيها منذ سنتَين ونصف السنة. كنتُ أرى هذا الرجل باستمرار في صالة الرياضة الكبيرة. كنّا نتحدّث حين نتصادف في الصالة فتتلاقى أعيننا. كنا نتبادل التحايا من دون تكلّف. أهزّ رأسي وأبتسم إذا صادفني وأنا مشغول اليدين بآلة التمرين. يفعل هو الأمر عينه. نتميّز عن مرتادي الصالة الشباب بسبب تقدّم عمرينا، أنا في السادسة والخمسين، وأظنّه غير بعيد من هذا العمر، رغم أن المداومة على ممارسة الرياضة تموّه الأعمار، خاصّة إذا أضيف إلى ذلك الاهتمام بالمظهر وصبغات الشعر، ولكن هناك سمات تميّز الخمسيني لا يمكن حيالها أن يراوغ عدّاد الزمن. حتى في أثناء ممارسة الرياضة، فإن الهمّة لا تلبث أن تفتر بعد مضي عشر دقائق أمام الآلة، ويبدأ هنا العمر يبعث رسائل الوهن، بخلاف الصبية الذين ينتقلون بين الآلات برشاقة ورقص.
ورغم كثرة اللقاءات بيننا لم نتبادل حتى اسمينا. ويمكن الحديث هنا عن خمس سنوات من هذه اللقاءات، تبادلنا فيها جملاً عابرةً في غرف تبديل الملابس أو في مغاسل دورات المياه. وبسبب هذا التراكم من اللقاءات، صار بإمكان كلّ منا أن يميّز الآخر بين حشد كبير من البشر، اجتمع فجأةً بسبب انقطاع الكهرباء في عزّ حرارة الصيف، ولم أعرف أنه جاري في العمارة، إلا حين انقطعت فجأة الكهرباء عن الحي، فخرجنا جميعا هاربين من حرارة الغرف.
كانت مجموعة من الناس تتجمّع أسفل العمارة، والقطط في حالة فوضى ومطاردة وهي تنتقل بين الأرجل. خرج أيضاً بعض الأوروبيين والأوروبيات، وقد تخفّفوا من ملابسهم بسهولة. ماجت الساحة بالحركة والكلام. وكما فعل آخرون، أخرجتُ كرسيّاً بلاستيكياً مرناً من مؤخّرة سيارتي، وفتحته في زاوية تطلّ على الطريق. كانت النساء تلوذ بالسيارات غامقة الزجاج. لا يوجد ضوء في مرامي محيط الحي من حولنا، لا توجد أيضاً أدنى خبرة جماعية في التعامل مع موقف شبيه. لذلك، يتصرّف كلّ واحد بطريقته، والحرارة في آخر شهر إبريل/ نيسان على أشدّها، فبدا الأمر أشبه بعقوبة جماعية، باستثناء جماعة الأوروبيين، الذين استغلّ بعضهم الفرصة، وصار يركض أو يمشي أمام الشاطئ. القطط شرعت في لعب مفتوح ومراكضات. في هذه الأثناء، رأيته يتقدّم نحوي، لم أعره انتباهاً في البداية، ظانّاً أنه سينحرف لحظةً عن مساره، ولكنّه حين رسم ابتسامةً على وجهه تلفّتُّ حولي لأرى إن كان أحد قريباً مني هو المقصود بهذا الاهتمام من الرجل المجهول. لا أحد غيري إذاً. مدّ يده فاستقبلتها واقفاً وصافحته. "ألا تتذكّرني؟".. خلع عمته من رأسه ودوّرها بأصابعه، فاتضح وجهه في الظلام، كأنما هو قادم من الصالة.. "آه نعم، عرفتك. أنت رفيق الصالة". "أنا أيضاً كنت أنظر إليك من مرآة سيارتي ولم أتأكّد بسهولة من هُويَّتك إلا بعد وقت طويل، وربطت صورتك بالصورة التي أراك فيها بالصالة وأنت ترتدي ملابس خفيفة شبيهة بما يلبس الآن هؤلاء الأوربيون"، ثمّ تراجع إلى سيارته وأخرج من مؤخّرتها كرسياً شبيهاً بالكرسي الذي أجلس عليه، وباللون البني نفسه. هذه الملاحظة لم تثر أيّاً منا، فالكراسي البلاستيكية التي تحاكي ألوان الخشب هي الأكثر انتشاراً في المراكز التجارية. "أنت أيضاً تسكن في البناية نفسها، ولم أرك إلا الآن".. "الحياة صغيرة"، قلت له. لم نتبادل أي جملة كاملة من قبل، رغم أننا نرى بعضنا أحياناً كل يوم في الصالة. اقترب قطّ مني وشرع يلصق ملمسه الوثير برجلي. لم أتحرّك، ولكنّ الرجل تحفّز مستعدّاً لطرده برجله إذا اقترب منه. "هل تخاف القطط؟". سألته، فقال: "ليس خوفاً، ولكن لا أعرف ماذا يحدث لي من ملمس القطط لجسدي. أقشعرّ سريعاً، ربّما هو أمر لا إرادي يعود إلى الطفولة، حتى إنني أرفض تربية القطط في بيتي الكبير. هذه الشقة آتي إليها في أحيان متقطعة جدّاً، واليوم انظر إلى المفاجأة انقطعت الكهرباء، ولكنّها ستعود في أقرب فرصة، هذا ما أخبروني به حين اتصلت بالطوارئ، ولم يذكر لي سبب العطل المفاجئ للمجمّع العام للمدينة".
تحدثنا كذلك عن المكيفات التي لا نشعر بوجودها إلا وقت الحرارة. ضحك حين أخبرته عن تلك النكتة التي تقول، إن المكيفات خرجت في تظاهرة تطالب فيها بعطلة لأنها لا تتوقّف عن العمل ليل نهار.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي