الحياة خارج السيّارة

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
(زينة عاصي)
الجميع في سيّارته.. يمكن أن نستثني هنا بعض الأسواق التي حافظت على طابعها الشعبي، وهي معدودة جدّاً في عُمان، مثل سوق الظلام في مطرح الذي يمكنك التنزّه فيه راجلاً، حيث يمنع دخول السيّارات، وكذلك أروقة المولات الكبيرة المغلقة والباردة بمساحاتها وتفرّعاتها. ربّما أصبحت هذه المولات السانحة المتاحة لكي ترى بشراً بعيداً من غرفهم الباردة المتمثّلة في السيّارات المتنقّلة. في مصر والعراق وبلدان الشام والمغرب العربي، تمتلئ الطرقات بالسابلة، فتنطلق الأصوات البشرية على السليقة، ولا يحدث شيء من ذلك إذا كنت حبيس سيّارتك، ولن يكون ثمّة مفاجآت إلا إذا تركتها واقفةً وترجّلت منها.
ذات صباح قريب تعطّلت بطارية سيّارتي فجأة، ورفض المحرّك أن يدور رغم المحاولات كلّها لتشغيله، وقد كان الوقت صيفاً، وصيف مسقط حارّ "يحوّل الصخر جمراً"، كما عبّر أحد الرحّالة القدماء. كنت قبل ذلك في مقهى بمنطقة العذيبة بمسقط، وبين يدَيَّ كتاب، وحين يئست من تشغيل السيّارة، مشيت قليلاً ووجدت شابّاً جالساً في جوف سيّارته، ظننت أن الحظّ كان برفقتي حين وجدته مُستعدّاً لمساعدتي. حرّك سيارته وقرّب وجهها من سيارتي المعطَّلة، وأخرج أسلاكاً لتزويد بطاريتي بالطاقة، ولكن العملية باءت بالفشل. شكرته قبل أن ينسحب مبتعداً، ثمّ جررت خطواتي إلى الشارع العام، لعلّي أجد معاوناً آخر، وهذا ما حصل حين وجدت شابّاً في جوف سيّارته، وقد أطلق جهاز التكييف. كان ساهماً وهو يداعب ميناء هاتفه حين طرقت عليه زجاج نافذته، فما كان منه إلا أن فتح الباب خارجاً وهو يصافحني. قلت له: هل "تتجمّل" وتوصلني إلى أقرب بائع بطّاريات؟ تشجّع لخدمتي، وفي الطريق عرفت أنه يعمل مضيف طيران للناقل العماني طيران السلام، هذا الطيران الذي تُبحر معظم رحلاته إلى بلدان شبه القارّة الهندية، ويتميّز برخص تذاكره قياساً إلى غيره من خطوط جوّية، ولكنّه لا يقدّم طعاماً إلا وفقاً للطلب المسبق. كاتب هذه السطور سبق أن اعتلى "طيران السلام" في رحلات إلى كيرلا ومدراس الهنديتَين، وإلى سيرلانكا ونيبال وإيران. لم يكن لأيّ حديث أن يولد بيني وبين الشاب لو لم تتعطّل سيّارتي، وبالتحديد لو لم أتركها هاجعة وأترجّل منها.
أصبحت القهوة تُشرب في السيّارة، لقد تحوّلت السيّارات بذلك إلى مقاه متنقّلة. بعض الذين يسعون إلى أعمالهم في الصباح يقفون بجانب فتحات المقاهي التي تقدّم خدمات سريعة، يأخذون قهوتهم ويمضون بها، وبين فينة وأخرى يرفعونها إلى أفواههم مرتشفين زلالها اللذيذ. بعض الناس لا يتحرّكون من سيّاراتهم حتى في حالة طلب غرض من حانوت في الطريق، لذلك يعمدون إلى إطلاق أبواق سيّاراتهم كي يخرج البائع إليهم، وذلك يُشكّل إزعاجاً واضحاً. من أجل مشروب غازي يمكنك أن توقظ نياماً في البناية. كان والدي رحمه الله يرفض هذه الطريقة في التعامل، وحتى وهو في عمره المتقدّم يوقف سيّارته، ويسعى إلى قلب الدكّان حين يريد غرضاً. وعموماً، بحسب ملاحظتي، يرفض كبار العمر أيضاً هذه الطريقة السيئة التي توصل الإنسان إلى أدنى درجات الاستهلاك، إلى جانب أنها تدلّل على الكسل والاتكالية واستغلال العامل بطريقة تقترب من الإهانة. سمعت أنه منعت أبواق السيّارات في السعودية من أجل طلب غرض من الحوانيت. لذلك، أصبح الشباب يلجؤون إلى استخدام الإشارات بأيديهم، للدلالة على ما يطلبون.
حين يتحسّن الطقس قلّما ألتجئ إلى استخدام سيّارتي. لذلك، كثيراً ما أُشاهَد وأنا أمشي في الطرقات، في هذه الحالة يمكنني أن أصادف مشاهدَ عفويةً وأدخل حانوتاً وأخرج من آخر. ذلك كلّه كي أملأ رأسي بمشاهدةٍ طبيعيةٍ للحياة. وفي سفراتي وإقاماتي خارج عُمان أعتمد على قدمَيَّ، إلا في قطع المسافات الطويلة، فإني أركب حافلات الشعب، لأنه في وسط الزحمة توجد الحياة.
كان نجيب محفوظ (حتى بعد حصوله على جائزة نوبل) يقطع المسافة اليومية على رجلَيه، وكان في الطريق المزدهر بالناس والأصوات، يكلّم هذا ويسلّم على ذاك، حتى يصل مجلسه المعهود، حيث ينتظره من يسمّيهم بـ"الحرافيش". كان يعلم أن الحياة خارج السيّارة.


كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية