الحلّ في لبنان مسؤولية اللبنانيين

الحلّ في لبنان مسؤولية اللبنانيين

01 يوليو 2021

(منى نحلة)

+ الخط -

"وجدْتُها وجدْتُها" صرخَ أحد الجهابذة اللبنانيين على طريقة أرخميدس، فكانت نظريته عن "الحلّ" للنكبة اللبنانية، وقوامها ما يأتي: بما أنّ حزب الله إيراني، وبما أنّ الجيش اللبناني أميركي، فقد صار ممكناً أن يلتقي الجباران، ويتفقا على إنهاء الصراع اللبناني، فيتسلّما الحكم، أو يتقاسماه. ومع إخراجه هذه النظرية إلى الشمس، يطلق جهبذنا نداءً من صميم قلبه، بأن تخيّلوا "كيف سيستقبل جموع الشعب اللبناني هذه الخطوة الإنقاذية!" إلى ما هنالك من عبارات حماسية، تضع نظرية الحلّ "المُكَتشفة" في مصافّ الإنجازات الوطنية الإنقاذية الكبرى.

ولم ينْتبه جهبذنا إلى العيوب التي تعْتري هذا الذي يسميه "حلاً": أولها أنّه يصدر عنه هو بالذات. صاحب تقية موصوفة، وذات رصيد عالٍ. لا يعلن، في مواقفه المتتالية، تأييده حزب الله، لكنّه لا يمرِّر موقفاً من "السلطة" القائمة، من دون تجاهل سطوته عليها، وكأنّه حزب "خارج السلطة" بل أحياناً معارِض لها. جهبذنا ينزِّه الحزب من كلّ جرائمه، يتجاهلها، أو ينسبها إلى إسرائيل. ولا يرى في الصراع إلا الأحزاب الضعيفة، الشريكة الفقيرة لحزب الله في السلطة والقرار المتخانِقة على وزير أو اثنين، على صلاحيات ممثل هذه الطائفة أو تلك... وهو الآن يلبّي نداء حسن نصر الله الأخير للجيش اللبناني، أن الودّ قائم بينهما. فكانت نظرية الحلّ، استجابة "ذكية" للنداء.

ثلاثية "الجيش، الشعب، المقاومة"، معادلة مكّنت حزب الله من بسط هيمنته، ليس على الشعب والجيش وحسب، إنّما على كلّ مؤسسات الدولة

عيبٌ آخر: يلاقي هذا الحلّ معادلةً سادت في الأيام الخوالي علناً ورسمياً. هي غافية الآن، مع طغيان هموم الموت جوعاً أو حرقاً. لكنها لم تنَم نوماً عميقاً. "الحلّ" المقترَح يوقظها، ويمنحها حياة جديدة. وهذه المعادلة ليست سوى ثلاثية "الجيش، الشعب، المقاومة" (المقصود بـ"المقاومة" الحزب المتحكِّم، أي حزب الله). وهي معادلة مكّنت هذا الحزب من بسط هيمنته، ليس على الشعب والجيش وحسب، إنّما على كلّ مؤسسات الدولة، فأوصلت لبنان إلى المنحدر الكارثي الذي هو عليه اليوم.

أخيراً، كلّ من يتقدم بحلّ للأزمة اللبنانية، عليه أن يحدِّد: هل هذا الحلّ جذري، أم مؤقت، أم جزئي؟ فإذا كان حلّاً قائماً على "توازنات القوى"، أي أخذاً بالاعتبار من هو الأقوى في التركيبة، ومن هو الأقوى من بين "الرعاة" الخارجيين، فإنّه قد يخدم مصلحة أطرافه، لكنّه لا يخدم الشعب اللبناني ومستقبله. وهو يقوم على سدّ هذه الثغرة أو تلك، وبالكثير من السطحية والتمويه، للإيهام بأنّ الموضوع جدّي. وبعد ذلك تأتي المصائب. ليتبيَّن أنّ "الحلّ" كان مجرّد ترقيع، إلى أن تتغير موازين القوى.

اتفاقا الطائف والدوحة لم يكونا حلولاً، إنّما ترقيع، تهدئة أمنية، تمرير للوقت

وهذه النوعية من الحلول اختبرها اللبنانيون بعد الحرب الأهلية، عبر اتفاق الطائف منذ 31 عاماً، الذي أوجد الحلّ بأن سحب من صلاحيات رئيس الجمهورية المارونية، ووزَّعها على رئيسي الحكومة والمجلس النيابي، السني والشيعي تباعاً، فكانت النتيجة هذا التطاحن الذي نشهده اليوم بين رئيسين، ماروني وسنّي، حول هذه الصلاحيات بالذات، والذي بلغ بالتجييش الطائفي مبلغاً تجاوزَ ما كان عليه عشية الحرب الأهلية. بعد ذلك، بعد اتفاق الطائف بـ18 عاماً، كانت أزمة خطيرة، حرب أهلية مصغّرة. هجم في أثنائها أحد أطراف "المعادلة الثلاثية"، أي حزب الله، على العاصمة، بمشاركة حليفه، حركة أمل، فكانت من "حلوله" أيضاً، على نسق الطائف، حاسبة لحسابات موازين القوى، تكرِّس حزب الله متحكِّماً بمصير لبنان.

اتفاقا الطائف والدوحة لم يكونا حلولاً، إنّما ترقيع، تهدئة أمنية، تمرير للوقت... ودائماً بناء على موازين القوى. الاتفاق الأول هو محور الصراع المميت بين رؤساء الطوائف على الصلاحيات، وأحقاد على من سرق هذه الصلاحية أو تلك، من لم يفهم فحوى هذه النقطة أو تلك... إلخ. والصلاحيات غالية، هي التي تجيّش الطوائف ضد بعضها، فتتأمن الأصوات والجماهير المبتهِجة، فيما الاتفاق الثاني، اتفاق الدوحة، رفع حزب الله إلى مستوى "الحَكَم" بين هذه الأطراف.

والأرجح أنّ المقصود بـ"الحلّ" الذي تقدّم به جهبذنا، أن يكون شبيهاً بحلول اتفاقي الطائف والدوحة. أي أنّ تتثبّت سلطة الأقوى من بين الأطراف اللبنانيين، بضغط خارجي مزدوج، من أصحاب السطوة والتمويل لكلا الطرفين: أي إيران لحزب الله، وفرنسا (أوروبا) والولايات المتحدة لخصومه - شركائه، الضعفاء. فينعم لبنان بهدنة، كتلك التي وهبها اتفاقا الطائف والدوحة، بقوة الخارج وإذعان الداخل، وبوضع أسس قديمة متجدِّدة للصراع المقبل.

ليس هناك حلّ متداوَل في لبنان إلّا الترقيعي منه. الأطراف الحاكمة ليست مؤهَّلة له

ينتمي جهبذنا إلى طائفة من المحلِّلين السياسيين، يواظبون على تقديم حلولٍ يعتقدون أنّها فريدة، يملكون مفاتيح لا يعرف الشعب اللبناني بوجودها. يرتقون هكذا إلى أصحاب أدوار، وإلى ما هنالك من مفاخر. وأهمها أنّه لفتَ نظر السياسي الفلاني الذي هنأه على أفكاره السديدة. ومعظمها متوافقة مع "أفكاره". فينتشي المحلل، ويرتقي درجة أعلى من بين صحْبه، بكلمة واحدة: "اتصل بي السياسي الفلاني...".

ليس هناك حلّ متداوَل في لبنان إلا الترقيعي منه. الأطراف الحاكمة ليست مؤهَّلة له، ولا الأطراف الدولية أو الإقليمية الداعمة لها، والمتنافسة في ما بينها، المتفاهمة حيناً والمتصارعة أحياناً، فضلاً عن الحسابات "الجيوستراتيجية" لهذه الأطراف، المتأرجحة بين الانْكباب على لبنان ونسيانه. وإذا لاحتْ الحلول في الأفق، فإنّ الحدّ الأقصى الممكن توقعه من هؤلاء جميعاً، هو ما يشبه اتفاقي الدوحة والطائف. أي تأسيسٌ لصراع مقبل. الحلّ المستدام الوحيد، العادل، المفتوح على المستقبل، وحدهم اللبنانيون يملكون أدواته، يعرفون تلابيبه. وحدهم لهم المصلحة الفعلية به. وبالتالي، وحدهم مسؤولون عنه. تقع على عاتقهم. وقد باشروا بفتح الطريق إليه. جديد هذه الطرق أخيراً كانت انتخابات نقابة المهندسين التي استطاعت فيها قوى المعارضة أن تهزم الأحزاب الحاكمة جميعها، الهزيلة منها والمتحكِّمة، هزيمة كاسحة. قبلها نقابة المحامين، والربح ذاته. وهذه وقائع ذهبية في سجلّ الشعب اللبناني. خطوتها اللاحقة هي الانتخابات النيابية، ورسالتها واضحة: لا حلول للاستعصاء اللبناني بيد أحد غير الشعب اللبناني.