الحكي... صوت المرأة الضروري
(بيكاسو)
دائماً كانت المرأة تحكي. الحكي فعل وجودي وضرورة لا غنى عنها. السؤال: لماذا على المرأة أن تحكي دائماً؟ ليس سؤالاً عابراً، بل هو استدعاء لجذور الإنسانية، لإرث عريق لا يزال يتردّد صداه في كلّ قصة ترويها امرأة في أيّ بقعة من هذا العالم. ولأنّ الصمت، رغم جماله أحياناً وضرورته، قد يتحوّل لعنةً إذا كان قسراً، خاصّة حين يكون السكون اختزالاً لحقوق، أو تقليصاً لصوت العدالة، أو تغييباً للرأي.
وحين تسكت النساء، يخسر العالم حكمةً خاصّةً تتشكّل من عذاباتهن وأحلامهن وتجاربهن، ومن أصواتهن تتكوّن حكايات الأمم وملاحم المجتمعات. حين تسكت النساء، تُقتَل القصص التي لم تُحكَ، وتُدفن الآمال التي لم تُعلَن، وتظلّ الجراح بلا شفاء لأنها لم تُعرَف.
منذ جلس البشر حول النار في المجتمعات البدائية، كانت المرأة هي الحافظة الأولى للذاكرة. حكاياتها لم تكن مجرّد كلمات، بل كانت جسوراً تنقل القيم والمعارف بين الأجيال. في أوقات الإقصاء والتهميش، حين لم يكن يُسمَح لها بالكتابة أو بالتحدّث علناً، كان الحكي صوتها، وسلاحها، ومساحتها المحفوظة بعيداً من قبضة السلطة الذكورية. المرأة التي حُرِمت من التعليم، والتي وُضِع على كاهلها عبء الصمت، وجدت في الحكي فرصةً لا تُعوّض لتقول: أنا هنا، وأنا أرى، وأنا أقول.
الحكي بالنسبة للمرأة كان دائماً أداة بقاء. عبر القصص، حكت عن الظلم، عن الحُبّ، عن الصبر، وعن لحظات الانكسار والنهوض. كلّ كلمة كانت بمثابة شهادة على وجودها، وتأكيد أنها ليست مجرّد ظلّ في عالم يهيمن عليه الآخر. وعندما لم تكن تُمنح مساحةً للتعبير، كان الحكي هو وسيلتها للتمرّد بصمت، وللصراخ عبر الحروف غير المكتوبة، ولإعادة صياغة العالم من منظورها الخاص.
لكن الحكي لم يكن يوماً محصوراً في الذاتية. المرأة، حين تحكي، لا تتحدّث عن نفسها فقط. قصصها هي انعكاس لرؤى مجتمعها، لآلامه وآماله وتحدّياته. هي لا تسرد تجربةً فرديةً فقط، بل ترسم صورةً أوسع للإنسانية. التفاصيل التي قد تبدو صغيرةً، عن حُبّ بسيط أو خوف خفي أو لحظة فرح عابرة، تحمل في طيّاتها حقيقةً كُبرى عن الوجود الإنساني.
ورغم تطوّر المجتمعات وفتح الأبواب التي كانت مغلقةً أمام المرأة، يظلّ الحكي جزءاً لا يتجزّأ من كيانها. ليس لأنه يربطها بالماضي فقط، بل لأنه يمنحها قوةً لإعادة تشكيل الحاضر ورسم ملامح المستقبل. الحكي هو فعل مقاومة، ولكنه أيضاً فعل حُبّ. حين تحكي المرأة، تمنح المستمعين جزءاً من روحها، تُشرِكهم في عالمها الداخلي، وتفتح لهم نوافذَ على رؤاها وأحلامها.
تاريخياً، كان صوت الرجل هو الصوت "المعترف به". كُتِبت الحكايات باسم الرجل، وسُجّل التاريخ من منظوره. أمّا حكي المرأة فقد ظلّ في الظلّ، يُنظَر إليه باعتباره مجرّد تجربة شخصية، لكن الحقيقة أن قصص النساء هي النصف الآخر من الحكاية الكُبرى للبشرية. لولا تلك الحكايات التي نُقلت شفهياً، وحُفِظت في ذاكرة الجدّات، لضاعت أجزاء مهمّة من تاريخ الإنسان، تلك التي لا تُسجّلها الحروب والسياسات، بل الحياة اليومية التي نعيشها جميعاً.
أمّا المرأة التي تحكي، فهي تفعل ذلك لأنها تدرك أن قصّتها لا تخصّها وحدها. هي تحكي لتُخلِّد ذاتها، وتُخلِّد معها ذاكرةً لا يمكن للكتب أن تحتفظ بها كاملة. المرأة التي تحكي تُعيد تشكيل العالم، تضيف إليه ألواناً لم يكن ليعرفها من دونها، وتؤكّد أن صوتها جزء أصيل من صوت الإنسانية.
الحكي ليس رفاهيةً ولا اختياراً. إنه ضرورة، فعل يعيد تعريف الإنسان ومكانته في العالم. الحكي هو صوت المرأة الذي لا يخفت، هو صرخة الحُبّ والمقاومة التي تتردّد عبر الزمن.
المرأة التي تحكي، تُعلِن أنها موجودةٌ، أنها ترى، وأنها ستظلّ جزءاً من هذه الحكاية التي نسمّيها الحياة.