الحكاية والمدن المُدمَّرة

26 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 02:56 (توقيت القدس)

دخان يتصاعد من أبنية في مدينة غزة بعد قصف إسرائيلي (16/9/2025 الأناضول)

+ الخط -

يوحي الخيال المرافق لصور الدمار التي تعرضها شاشات الأخبار أو وسائل التواصل الاجتماعي بما هو أشد وطأة من مشهد المدينة المدمّرة... ثمّة بشر كانوا هنا، قتلوا تحت الأنقاض أو حاولوا النجاة بأرواحهم وسط هذه الجحيم. لكل منهم قصة يحملها معه أينما ذهب، ولكل منهم ذاكرة له عن مدينته المدمّرة تشبه قنبلة موقوتة يمكنها الانفجار في أيّ لحظة، إن لم يُتأنَّ في تفكيك أسلاكها، ولا سبيل إلى ذلك سوى بجعلها عامةَ، ذاكرةً تخصّ الجميع وتروي جزءاً ممّا حدث أو قد يحدث لهم؛ فالدمار لا يقتل المدن فقط، بل يقتل الحكايات التي لم تُحكَ عنها بعد.

رواية تلك الحكايات وتفريغ الذاكرة يمكنه أن يعيد بناء المدن عبر الحكي عنها، أو عبر جعلها موضوع الكتابة. "في كل دمار يظلّ ثمة شيء يعيدنا إلى الكتابة، الكتابة بحدّ ذاتها فعل بناء"، كما تقول الكاتبة الكندية مارغريت آتوود، التي لم تختبر دماراً فعلياً في حياتها، لكن الكاتبة (والناشطة) التي هي عليها جعلتها تدرك ما يمكن للدمار فعله، وكيف يتمكّن بعضهم من مقاومة أثره السلبي عبر الحكي والكتابة.

لا يذكر التاريخ إلا لماماً نهاية مدن كاملة بسبب دمارها. على العكس، فالتجارب التاريخية في الحروب (القريبة والبعيدة) أضاءت جوانب مهمّة لإعادة بناد مدن دمّرتها الحروب تماماً. هيروشيما التي محتها قنبلة نووية عادت وازدهرت وأصبحت رمزاً للسلام العالمي. برلين التي دمّرتها الحرب وفتّتتها، أعادت نساؤها بناءها ما أن وضعت الحرب أوزارها، وسقط لاحقاً الجدار الذي فصل بين غربها وشرقها. برلين هي اليوم واحدة من أهم مدن أوروبا في التعايش الكوزموبوليتاني. دمّرت الحرب وارسو أيضاً، لكن سكّانها بعد الحرب أعادوها كما كانت باستخدام الحجارة نفسها التي تدمّرت. تلك مدن كبيرة تدمّرت بفعل حرب عالمية طاحنة. هناك مدن تدمّرت بفعل حروب أهلية مؤسفة. مدينة سراييفو التي تحوّلت اليوم مقصداً سياحياً وترفيهياً مثيراً، استطاعت التعالي على الجراح، واستعادت تعايش سكّانها (مسلمين، ومسيحيين أرثوذوكس وكاثوليك، ويهوداً). لكن هذا حدث بعد رواية سيرة المدينة من سكّانها، وإقرار كل منهم بما ارتكبه بحقّها. سامحتهم سراييفو، وتركت لهم أن يعيدوا لها ألقها.

الدمار الذي تخلفه الحروب الأهلية عادة ما يكون الأشدّ قسوة، ذلك لأن ذاكرة المدينة سوف تنقسم، سوف تُروى عنها حكايات متناقضة تضيع فيها الحقائق أو تصبح الحقيقة ملكاً لطرف يمنعها عن الأطراف الأخرى. الحقيقة في الحروب الأهلية هي الضحية الأولى، هي الضحية التي يمنع اختفاؤها إعادةَ بناء سليمة تحتاج جرأةً استثنائيةً في كشف الحقيقة واعتراف الجميع بطعنها. للأسف! يبدو هذا في سورية بالغ الصعوبة. الحرب دمّرت أساسات البناء. لا تكترثوا كثيراً للحجر، سوف يعاد بناؤه بقوة الاقتصاد ورأس المال الذكي، لكن هذا سوف يبقى طويلاً بلا تلك الروح التي تعيد للمدن بهاءها: روح الألفة والاستئمان والطمأنينة. الذاكرة الجمعية لسكّان مكان ما إن لم تستطع التآلف من جديد، فسيفقد المكان ألق روحه، سيفقد روحه. أصلاً الحرب تدمّر كل شيء، حتى التواضع. تجعل الجميع متفاخرين بانتصارات وهمية. التفاخر لا يمكنه إنتاج صيغة تعايش، هذا يحتاج إلى التواضع، إلى الاعتراف بالخطأ ونبذ الإنكار. لا تبدو لي سورية حتى اللحظة جاهزةً لهذا.

تنفرد غزّة بين باقي المدن المدمّرة بأن عدوها ليس طارئاً، هو عدو تاريخي له هدف واحد، تدمير بنية المكان تماماً وإعادة بنائه مستوطنات تشبهه. فرصة أهل غزّة بإعادة بناء مدينتهم في ظلّ المعطيات الراهنة تبدو ضئيلةً، لكن الحكاية الفلسطينية قديمة ومتجدّدةً ومترسّخةً في الذاكرة الجمعية للبشرية. لا خوف على غزّة مهما حدث، هي مدينة متألّقة وحاضرة في النصّ المحكي والمدوّن، حاضرة بقوة تبقيها قيد البناء كل لحظة، لأن غزّة البديلة موجودة في كل تفصيل من تفاصيل حياة أبنائها. قِدم القضية رسّخ مدنها البديلة، كلّما دمّر الاحتلال بلدةً ظهرت بلدات بديلة في الذاكرة تحميها من المحو. ليس لدى السوريين (للأسف!) هذا الامتياز، ما لدينا حتى الآن هو حقد متزايد يدمّر حتى الرغبة في كتابة الحكاية.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.