الحقيقة لا تزال أُولى ضحايا الحروب

الحقيقة لا تزال أُولى ضحايا الحروب

31 مارس 2022

(بول غيراغوسيان)

+ الخط -

مع مرور أكثر من شهر على الحرب الجارية في أوكرانيا، علينا دائماً أن نتذكّر أنّ الحقيقة، غالباً، أُولى ضحايا الحرب. فعلى الرغم من وجود الكمّ الهائل من المعلومات، ومنها تقارير مصوّرة تُبَثّ بصورة حيّة ومباشرة من الميدان في أوكرانيا، علينا دائماً أن نُبقى دفاعاتنا مرتفعة، قبل أن نقبل ما نسمع أو نقرأ وكأنّه الحقيقة المطلقة. وقد نحتاج سنين وعقوداً كي تنكشف كلّ الحقائق أو أغلبها، وقد تبقى بعضها غائبة أو مغيَّبة حتى بعد مرور زمن طويل.

تذكّرتُ قول ضحية الحقيقة في أثناء الحرب خلال احتفال جرى في عمّان الاسبوع الماضي، بمناسبة صدور كتاب مصوّر بعنوان "روابط تشكلت تحت النار" يهدف إلى تخليد العلاقة الأردنية الأسترالية، وخصوصاً ما جرى إبّان الحرب العالمية الأولى في بعض المدن الأردنية، ومنها عمّان والسلط ومناطق الأغوار.

تبقى الحقيقة والبحث عن الحقيقة هدفاً نبيلاً علينا أن نعمل على الوصول إليه

بعد الاستماع إلى الكلمات المنمّقة من أمراء ووزراء وسفراء، كان آخرَ المتحدّثين باحث أسترالي شرح كيفية العمل على الكتاب المصوّر، وعرج، في كلمته، الى ما جرى في الأردن في ربيع عام 1918، وذكر عبارة توقفت عندها، حين عبّر عن أخطاء جرت بشأن معارك بين قوى التحالف البريطاني والأسترالي والنيوزيلندي مع الجيش العثماني آنذاك.

سألتُ الخبير الأسترالي، جيمس برو، بعد انتهاء المراسم عمّا كان يعنيه عندما عبّر عن وجود أخطاء، فردّ عليّ بأن أخطاءً كثيرة كانت في المعارك، ولكن أكبرها كان في ما قام به المؤرّخون. "هل تعلم أن تاريخ بعض تلك المعارك مدوّن بصورة خاطئة، خصوصاً في لوم قبيلة بني صخر على مسؤوليتها عن خسارة معركة السلط الثانية. فقد أُلقي اللوم عليهم، لعدم الوفاء بوعدهم بالمشاركة في المعركة، لكنّ الحقيقة أنّه لم يكن هناك وعد من قبيلة بني صخر بالمشاركة في تلك المعركة، ولم يُعلَم الأمير فيصل بالمعركة. والحقيقة أنّه لو شارك كلّ أبناء قبيلة بني صخر، لما تغيرت النتيجة، فقد كانت المعركة غير متكافئة، ولم يكن هناك فرصة للفوز بتلك المعركة، لكنّ المؤرّخين لم يذكروا ذلك، بل فقط ألقوا باللوم على القبيلة العربية. سألت الخبير: وهل صُحِّحَت تلك المعلومة؟ فردّ بأنّه على الرغم من وجود فقرة في كتابات المؤرّخ الخاص للجنرال اللنبي صادقة في وصف ما حدث، فإنّ الغالبية العظمى من المعلومات المنشورة، والتي يجري تكرارها من دون وجه حق، تضع اللوم على القبيلة العربية.

المؤسف أنّنا نقبل المعلومات الخاطئة، ولا نمحّص فيها ونتأكد منها

بعد أيام، التقيت صحافياً أردنياً من شمال المملكة، وسألته عمّا يعرفه عن معركة السلط الثانية التي جرت في إبريل/ نيسان من عام 1918، وفوجئت بأنّه يعرف عنها، لكن كانت معلوماته مغلوطة، إذ قال لي بأسف: "إنّنا نحن العرب سبب خسارة تلك المعركة". صحّحت المعلومة، التي من الواضح أنها أصبحت متوارثة، ليس فقط في المؤلفات الغربية، بل حتى في ما يجري تداوله أردنياً.

الحقيقة ضحية الحروب، لكنّ المؤسف أنّنا نقبل المعلومات الخاطئة، ولا نمحّص فيها ونتأكد منها. أهم ما يقوم به الباحثون والخبراء الأكاديميون، ما يسمى peer review، أي المراجعة والتأكد من الزملاء في التخصص نفسه. وعند تطبيق مثل هذا الأمر، يوافق بعضهم على دراسات الزملاء، من قبيل الخجل وعدم الإحراج، بدلاً من قول الحقيقة، حتى إن كانت تضرّ دراسة الزميل.

نحن بحاجة إلى ثورة حقيقية في مفهوم المصداقية، ليس فقط تلك الحقائق التي تكون أول ضحايا الحروب، لكن الحقائق المرّة التي نمرّ عليها مرور الكرام، ولا نقوم بالنقد الذاتي والنقد البناء، الذي يمكن، إن تحقق، أن يجنبنا كوارث كثيرة... وتبقى الحقيقة والبحث عن الحقيقة هدفاً نبيلاً علينا أن نعمل على الوصول إليه، أكان ذلك في وقت الحرب أم وقت السلم.