الحرية للسجين الذي لا يذكره أحد

الحرية للسجين الذي لا يذكره أحد

03 يونيو 2022
+ الخط -

خروج أي سجينٍ من ضيق الزنزانة إلى براح الحياة العادية خبرٌ يستحق التهنئة لمن خرجوا، ولمن كانوا ينتظرونهم عند بوابات السجون، مهما كانت الأساليب التي أدّت إلى خروجهم، وبعيدًا عن استثمار لقطات ملامسة أرصفة الشوارع لمصلحة نظام سجنهم، وقبلهم عشرات الآلاف من المظلومين. غير أنّ ذلك كله لا يمنع من تأمّل الصور والمشاهد، السابقة والتالية لإطلاق السراح، في إطار عملية سياسية يتبعها النظام الحاكم في مصر، ويطلق عليها "مكرمة العفو الرئاسي".

من المفترض نظريًا، وكما يردّد متعهدو حفلة العفو الرئاسي والحوار الوطني، أنّ هذه لحظات تصالح مع الذات، واعتذار ضمني عن مرحلة بائسة اشتدّ فيها الظلم، وتمدّدت فيها كوابيس الإقصاء والفاشية والعنصرية، وهو ما كان يقتضي أن يأتي الخطاب الصادر عن المنخرطين في حفلات العفو، التي اضطر لها النظام المأزوم اضطرارًا، بعيدًا عن تلك المفردات المكارثية التي تصنّف المحبوسين ملائكة وشياطين، وتنشد الحرية طوال الوقت لمن يصادفون هواهم الأيديولوجي والسياسي، فقط، مع الإلحاح على فكرة أنه لا عفو ولا حرية لمن يعارضون هذه السلطة، من حيث المبدأ، بترديد الأكاذيب والافتراءات ذاتها التي سادت طوال السنوات التسع الماضية عن حمل السلاح وإراقة الدماء .. إلى آخر هذه التلفيقات المحفوظة.

من حيث المضمون، لا يمكن التسليم بأنّ هذه أجواء حرية يتصالح فيها الوطن مع مكوناته المختلفة، إذ فيما تخرج أعداد تعدّ على أصابع اليدين من جماعة "30 يونيو" يستمر الكلام عمّن هم خارج هذا الإطار، باعتبارهم خارجين عن مقتضى الوطنية، لا حقوق لهم، ولا حريات، بل أعداء ينبغي زيادة جرعات التنكيل بهم، مع كلّ زغرودةٍ تنطلق احتفالًا بخروج واحد من المحبوسين، المطابقين للمواصفات المطلوبة فيمن يعارض السلطة، وفقًا لمفهوم هذه السلطة للمعارضة.

الملاحظ أنه، في بعض الحالات، يسبق إعلان العفو الرئاسي عن بعض شخصيات المعارضة إصدار حكم قضائي مشدّد بسجنهم، وبعدها يرفع الستار عن المكرمة الرئاسية بالعفو، وكأننا بصدد معادلة أو صفقة تقوم على تجريم المعارضة، فكرًة ومبدأً وحقًا طبيعيًا لأي مجتمع إنساني، في مقابل العفو عن بعض المعارضين، وإخراجهم من السجون إلى منازلهم، لا يتكلمون ولا يدلون برأي في سياسة أو اقتصاد أو أي من صور التعبير.

يصرّ المشتغلون في مهرجانات العفو الرئاسي والحوار الوطني على منح هؤلاء، دون غيرهم، لقب "سجناء الرأي" ويخصّونهم وحدهم بطلب العفو والحرية، بينما ما عداهم من المظلومين، فهم الذين يشار إليهم ضمنًا بأنّ أيديهم رفعت السلاح على المصريين، وتلوثت بدمائهم، وهي محض معلبّات سياسية وإعلامية فاسدة تروّج على أوسع نطاق، منذ اللحظة الأولى لاختطاف هذه السلطة الحكم بانقلاب عسكري صريح.

وفقًا لهذه المعادلة/ الصفقة الكريهة، يبقى سياسيون وأكاديميون ورجال قانون محترمون مطرودين من جنة "سجناء الرأي" الذين يستحقون الحرية والعفو، وفي ذلك يمكن أن تُذكر عشرات، بل مئات الأسماء، ممن وضعوا في السجون منذ اليوم الأول للانقلاب لأنهم كانوا يمارسون حقهم الطبيعي في رفض الانقلابات العسكرية وسيلة للحكم، وإعلان هذا الرأي عبر كل الوسائل المشروعة، دستوريًا وقانونيًا، من الهتاف والكتابة والاعتصام والتظاهر.

الثابت، فعلًا وقولًا، والموّثق بالصوت والصورة، أن من رفع السلاح ضد المصريين، وتلوثت يده بدمائهم، هم أهل هذه السلطة الذين أطلقوا مدفعية الجيوش على الجماهير المحتشدة في اعتصامات رافضة للانقلاب، تابعها العالم على الهواء مباشرة، على مدار أسابيع انتهت بمجزرةٍ هي، في عرف كل القوانين والمواثيق الدولية، جريمة ضد الإنسانية.

هذا الذي أمر وأشرف ونفذ كلّ هذه المذابح مطلوب منه أن يشكر صاحب العفو والمكرمة الذي يمنح الحرية للمظلومين، بالطريقة ذاتها التي تشاهد بها عملية توزيع كرتونة السلع التموينية على الفقراء والمطحونين تحت عجلات الفقر والعوز، بل ومطلوبٌ أيضًا أن تصفق له وتشكره على إنسانيته المفرطة، وتطلب منه مزيدًا من "كراتين العفو" لأسماء أخرى مصنفة سجناء رأي، بينما شخصيات مثل  محمد سعد الكتاتني ومحمد البلتاجي وابنيه، وعصام سلطان، والسفير رفاعة الطهطاوي والوزير محمد علي بشر والمرشّح الرئاسي حازم صلاح أبو إسماعيل وأسامة محمد مرسي، وصحافيين وإعلاميين مثل حسام أبو البخاري وتوفيق غانم وأحمد سبيع، وآلاف أخرين ممن لا يذكرهم أحد، فهؤلاء غير لائقين لدخول جنة العفو.

للمرة الألف، كل معتقل أو سجين سياسي في زنازين نظام عبد الفتاح السيسي، منذ العام 2013، هو مستحقٌّ للحرية وجدير بها، بل وبريء من كل ما يُكال له من تهم، بصرف النظر عن لون بشرته الأيديولوجية، يستوي في ذلك الذين يتذكّرهم ويطلبهم بالاسم زعماء العالم الصفيق، أو الذين لا يأتي على ذكرهم أحد.

وائل قنديل
وائل قنديل
صحافي وكاتب مصري، من أسرة "العربي الجديد". يعرّف بنفسه: مسافر زاده حلم ثورة 25 يناير، بحثاً عن مصر المخطوفة من التاريخ والجغرافيا