الحرب بين التدخين والديمقراطية

الحرب بين التدخين والديمقراطية

18 سبتمبر 2021

علامة منع التدخين في تورنتو في كندا (2015/11/01/Getty)

+ الخط -

سألني الطبيب، بعد تشخيصي مصابا بالسرطان: هل تدخن؟ كانت إجابتي البديهية: لا، لم أكن مدخنا في حياتي. .. ثم فكرت قليلا، وقلت إني أحضر أحيانا تجمّعات تشمل مدخنين، وقد أجرّب بعض أنفاس الشيشة. قال بصرامة: ولا نَفَس واحد!

قال إنه يمكن لمن في حالتي التهاون مع أمور عديدة، مثل الأطعمة غير الصحية وحتى الكحول، لكن لا ذرة تهاون مع التدخين، حتى التدخين السلبي يجب تجنّبه تماما. أكد أن الأمر لا يقتصر على تعزيز نمو الخلايا السرطانية، بل أيضا على احتمالات عدوى الرّئة المميتة، بعد العملية الجراحية التي سيجريها لي.

في كتابه "إمبراطور المآسي: سيرة للسرطان" يقدّم الطبيب الأميركي، سيدهارتو موكارجي، تفاصيل رحلة تغلب جوانبها السياسية على العلمية. انطلق أول إنذار جدّي في 1947، حين كشفت الإحصاءات البريطانية وضعا وبائيا لسرطان الرّئة، إذ تضاعفت الوفيات بسببه 15 ضعفا خلال عقدين فقط.

بعد سنوات من التخبّط، أمكن للعالمين، دول وهيل، نشر دراسة أثبتت علاقة قاطعة بين التدخين والسرطان، حيث كانت كل وفيات الأطباء المسجّلين من سرطان الرئة خلال ثلاثة أعوام للمدخنين، النتيجة: 100%! لاحقا توصلت دراسة أميركية أضخم إلى نتائج شبيهة. في المقابل، نجحت شركات التبغ في منع أي تحرّك سياسي، وفي إطلاق حملات دعاية بالغة الخبث والتأثير، بل أمكن لصناعة التبغ في أميركا أن تعمل تحت مظلة "لجنة التجارة الفيدرالية"، وتخرُج جذريا من سلطة "إدارة الغذاء والدواء" (FDA).

بدا أن الدراسات العلمية يقتصر تأثيرها على نخبٍ معزولة، حتى ظهر مناضلون غيروا العالم. اليوم أصبح التحذير المطبوع على علب السجائر أمرا بديهيا. لكن من يعلم أن بدايته كانت على يد مدرس الكيمياء الأميركي، جون بلاتنيك، عام 1957الذي وجد ثغرة قانونية، بعد إعلان شركات التبغ أنها أضافت "فلتر" يجعل السجائر آمنة، فأمكنه التقدّم بشكوى للتحقيق في صحة ذلك الزعم، وتطلب الأمر معركة في الكونغرس استمرت حتى 1965.

أيضا، تحظر أغلب الدول، اليوم، إعلانات التبغ، ولكن من يعلم أن البداية كانت على يد المحامي الأميركي الشاب جون بانزاف، الذي رفع دعوى قضائية تستند إلى قانون "مبدأ العدالة"، والذي يُلزم وسائل الإعلام بأن تخصّص أوقاتا متوازنة لوجهات النظر الخلافية. انتزع حكما لمصلحته عام 1968. وهكذا أمطرت مؤسسات مكافحة التدخين محطّات التلفزة بالإعلانات المؤثرة، فقرّرت شركات التبغ عام 1970 التوقف عن الإعلانات لحرمان منافسيها من الاستفادة من قانون البث المتكافئ.

ضربات أخرى جاءت عبر عمل آل لاسكرز بالغ النشاط في أروقة الكونغرس وفي الإعلام، وأخرى عبر دعاوى قضائية شهيرة، أسفرت إحداها عن كشف وثائق "لجنة أبحاث صناعة التبغ" التي شكّلتها الشركات، والتي ذكرت بوضوح أن استراتيجيتها هي بثّ الشك في النتائج العلمية، وليس نفيها!

ومن المدهش مدى نجاح استراتيجيات الشك تلك في التأثير على الوعي العام، وزعزعة الثقة في المؤسسات العلمية، وهو ما امتد أثره في الحملات المعادية للقاحات كورونا. وعلى الرغم من ذلك، شهدت أعداد المدخنين في الغرب تراجعا كبيرا. وهنا وجدت الشركات منفذا في الدول الاستبدادية، حيث لا برلمانات نزيهة، أو قضاء مستقل، ولا حرية تنظيم لجماعات ضغط المجتمع المدني. يفسر هذا سبب وجود 80% من المدخنين اليوم في الدول النامية.

في مطلع العام الجاري، دُعيت لحضور ورشة نظّمها مركز "مصادر تكتيكات التبغ" في جامعة باث البريطانية، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، حيث غرقت في بحر شاسع من أراشيف الوثائق والمعلومات. محور رئيسي هو تتبع أنشطة الشركة البريطانية الأميركية للتبغ (بات) التي تحقق أعلى مبيعات في العالم حاليا (33 مليار دولار).

تتضمّن الوثائق مئات المخالفات التي تركزت في دول أفريقية، تشمل حملات دعائية غير قانونية، عمالة الأطفال، دفع رشاوى لسياسيين ومسؤولين حكوميين. قبل أيام، كشف تحقيق لـ "بي بي سي" أن الشركة تفاوضت لدفع نحو نصف مليون دولار لحزب روبرت موغابي في زيمبابوي.

في المجمل، كشفت دراسة نشرتها منظمة الصحة العالمية والمعهد الوطني الأميركي أن كلفة التدخين العالمية، بلغت نحو 1.4 تريليون دولار عام 2012. تتحمّل الدول الأفقر أغلب تلك الفاتورة الباهظة. .. غياب الديمقراطية يقتل.