Skip to main content
الحراك السياسي الراهن في ليبيا .. تجربة جديدة أقرب إلى الركود
خيري عمر
احتجاج في طرابلس على الوضع السياسي والظروف المعيشية (1/7/2022/فرانس برس)

بينما بدت بوادر حراك احتجاجي، أول يوليو/ تموز الجاري، في ليبيا على سوء الخدمات الحكومية وحالة الانسداد السياسي، اتسمت استجابة مجموعة الحاكمين بالغموض تجاه تلبية مطالب المُحتجين. وفي ضوء خبرات الحراك السابقة، تبلورت عوامل نجاح الرغبة في التغيير، وعوامل إحباطها أيضا. وهنا، تبدو أهمية النقاش في إمكانية تجديد المسار السياسي عبر ظهور فاعلين جُدد يمكنهم تجاوز النزاع بين الحكومات القائمة، وهو ما يتطلب قراءة الملامح العامة للحراك الراهن في ضوء خبرة التجربة الانتقالية.
ومنذ الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، تشهد ليبيا أنماطاً مختلفة من التحرّك السياسي لأطراف من خارج الدوائر المسيطرة، تلاقت على ضرورة حل معضلة الانتخابات وتحسين الطاقة والأمن، بالإضافة لمعالجة مشكلة الأسعار، فقد ركز بيان 16 مُرشحاً للرئاسة في طرابلس، 10 يونيو/ حزيران 2022، على معالجة مطالب، من بينها، وقف نشاط المسلحين باعتباره مظهراً غير حضاري، واعتبار المؤسسات القائمة غير شرعية، ما يُوجب إنهاء عملها، واعتبر أن التغيير يكون بحشد الجماهير في المدن، القرى ومنظمات المجتمع المدني، وسيلة مناسبة لبدء مرحلة جديدة. وفي السياق نفسه، يحاول اجتماع "ملتقى المكونات الليبية" في سُلوق، جنوب بنغازي في 11 يونيو/ حزيران، إعادة الاعتبار لدور المكونات الاجتماعية بعد مرحلةٍ من الاستلاب تحت وطأة السُلطات المُجزّأة، فبجانب تمثيله الواسع القبائل الليبية، فقد تبنّى موقفاً مُحايداً لرسم خريطة الخروج من الأزمة، حيث خلُص إلى أن بقاء الوضع الراهن يرجع إلى فشل السياسيين في التقدّم خطوة واحدة نحو الدولة، حتى صارت البلاد على مفترق طرق. ولذلك، اعتبر أن عقد انتخابات عامة مُتزامنة الحل الضروري لمشكلات الخدمات العامة وحفظ وحدة الدولة وعودة النازحين.
وفي سياق متتابع، ومع بداية يوليو/ تموز الحالي، اندلع الاحتجاج في مدن ليبيا على خلفية تدهور الأوضاع المعيشية، سيما انقطاع الكهرباء وارتفاع الأسعار، وتفاقم أزمة السلطة. وشملت مطالب المحتجين رحيل الحُكام الحاليين، وإجراء الانتخابات وخروج جميع القوات الأجنبية والمرتزقة بجانب إصلاح قطاع الخدمات. وبدت خطوة الحل الأولية في تفويض المجلس الرئاسي بإعلان حالة الطوارئ وحل البرلمان. وعلى خلاف النمطين السابقين، ليس من الواضح وجود ترابط شبكي فيما بين تحرّكات "بالتريس الشباب" بما يضفي صعوبةً لدى تدقيق توجهاته وقدرته على التأثير في تحريك الوضع السياسي والابتعاد عن الانضواء تحت دوائر النفوذ.

تعكس التصرّفات المصاحبة للحراك قلة شغف مجموعة الحُكام بتقديم رؤى متماسكة وتردّدهم في تقديم تنازلات لتحريك الوضع السياسي

بجانب هذه الحالات، تلاقت فاعليات أخرى مع تطلعات متقاربة، دارت في معظمها حول تأطير المصالحة الوطنية من خلال تدشين "المفوضية الوطنية العليا للمصالحة" في 2 يونيو/ حزيران، بهدف تحويل الصراع وإحلال السلام في المجتمع الليبي. وبجانب تضامنه مع اجتماع سُلوق، أرجع البيان الختامي لملتقى "ليبيا محبة وسلام"، 18 يونيو/ حزيران، الأزمة إلى استمرار حالة الحرب، وتحويل البلاد ساحة صراع دولي، ويخلص إلى أن استكمال إجراءات الانتخابات الحل المناسب.
وعلى الرغم من ضعف البناء التراكمي لهذه التفاعلات، يُساعد الاقتراب من مواقف المجموعات الحاكمة في تقدير احتمالية القبول بظهور ديناميات جديدة. من وجهة أساسية، يمكن تصنيف ردود فعل مكونات الحكم حالتين، تتمثل الأولى في الحديث عن تمتع المواطنين بالحقوق الدستورية، وبدت ملامح التماهي مع مطالب المتظاهرين بالحديث عن وجود مشكلات، لكن في المناطق غير الخاضعة لسيطرة ذوي السلطة والنفوذ. وفي تماه لافتٍ، أعلنت القيادة العامة في بيان، في 2 يوليو/ تموز، تأييدها مطالب المحتجين على مستوى البلاد، ووصفها بالمطالب المشروعة وعبرت عن استعداد الجيش للقيام بمهامه الأمنية والعسكرية. أما الثانية، فقد نشرت الحكومات على الجانبين العناصر الأمنية لحماية المقرات الرسمية مع تهديد المتظاهرين بمهاجمة المؤسسات. وفي هذا السياق، حذرت حكومة الوحدة الوطنية، غرب ليبيا، من توسيع الاحتجاج في مناطقها، وفي بداية الاحتجاج اتهم رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، أنصار سيف الإسلام القذافي باقتحام المجلس لكنه تراجع عنها لاحقاً.
وبشكل عام، تعكس التصرّفات المصاحبة للحراك قلة شغف مجموعة الحُكام بتقديم رؤى متماسكة وتردّدهم في تقديم تنازلات لتحريك الوضع السياسي، كما في الحديث عن العودة إلى ما قبل الانتخابات في 24 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وإلغاء قوائم المرشحين للرئاسة والبرلمان أو الانسحاب الجماعي. على أي حال، بدا محتوى التصريحات خفيفاً، ولا يرقى إلى إدراك وقوع ليبيا تحت معايير الدولة الفاشلة التي تشهد تعدّد مسارات النزاع على السلطة والموارد وتعطيل عملية الإنتاج وهيمنة الكيانات غير الرسمية على صناعة القرار، وهي أوضاع تتناغم مع استمرار الخلاف حول ترشيح مزدوجي الجنسية والعسكريين لرئاسة الدولة منذ عام 2014، وبقائها من دون حسم سلميٍ أو عسكريٍ، وبشكلٍ يعوق كل محاولات المضي في أي عملية سياسية مستقبلية بدون سحب أو خروج واحد من المتصارعين.

ظهور أشكالٍ من الحراك، يتطلب قراءة احتمالاته المستقبلية في سياق ميراث الفترة الانتقالية من خلال ثلاثة محاور

ويتّضح جانب من التردد في أن ما يطرحه المجلس الرئاسي، 5/7/2022، ليس سوى محاولة يتوقف إنجازها على رغبة الآخرين، فصيغة تصريح المجلس أقرب إلى توصيات الباحثين منها إلى طريقة عمل السلطة، ولذلك ظهرت مجرد خطوط عامة تتحوّل إلى خريطة طريق مفتوحة، وهي أقل تحديداً من تصريحات سياسيين آخرين، كما أن المجلس، من وجهة تأسيسية، لا يحظى بالنفوذ الكافي لتسيير السياسة في ليبيا. وحسب تصويت الجولة الأولى في تكوين السلطة التنفيذية، كان ثقله الحقيقي أقل بكثير من المنافسين الآخرين. ما يُضعف فرصه في أخذ زمام المبادرة.
وعلى مدى الفترة من فبراير/ شباط 2021 وحتى الوقت الراهن، ظلت مجموعة الحُكام تعمل على إضفاء مزيد من القيود على المناخ السياسي في إساءة التشريعات الانتخابية، ونقص الالتزام الأدبي بخريطة الطريق، والأكثر أهمية ما يتمثل في انحراف السياسات العامة وتفاقم النزاع حول القوانين اللازمة لخروج ليبيا من الحرب. وفي سلوك مماثل، تنامى الصراع على مالية الدولة وقطاع النفط. فمن جهة، يُضفي تعيين رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، 28 يونيو/ حزيران 2022، علي الحبري، رئيساً للمصرف المركزي بديلاً للصديق الكبير، الرئيس الحالي، عُقدة إضافية في أزمة السيولة، كما يُعبر إعلان المؤسسة الوطنية للنفط حالة القوة القاهرة عن البُعد السياسي لأزمة قطاع النفط الدائمة وتسببها في انقطاع الكهرباء. وفي جانب استخدامها عقوباتٍ، يُمثل قبض العوائد مطلباً حاسماً لكل دوائر النفوذ، كما هو المدخل الواسع للحرب بين الحكومات الاسمية، بحيث يحد من القدرة على ضبط السياسات العامة أو تكوين المناخ المناسب للانتخابات، لتقتصر على تقديم خدمات جزئية لا يمكنها تبرير بقائهم في السلطة.
في الإطار العام، تبدو تجربة ليبيا أقرب إلى الركود السياسي، غير أن ظهور أشكالٍ من الحراك، يتطلب قراءة احتمالاته المستقبلية في سياق ميراث الفترة الانتقالية من خلال ثلاثة محاور، يتمثل الأول في مدى تقارب الإدراك للمشكلات وطرق الخروج منها، ما يمكن اعتباره تقدّماً ملموساً. وفي سياق الخبرة السابقة، ارتبط نجاح حراك "لا للتمديد" في نهاية 2013 باستناده إلى قاعدة سياسية وأيديولوجية متجانسة، فقد ظهرت واجهات النظام السابق، معمّر القذافي، و"تحالف القوى الوطنية" وكتلته البرلمانية وكُتل أخرى في خلفية مطالب حل المؤتمر الوطني، لينتهي الحراك بالوصول إلى انتخابات مجلس النواب.

لا يمثل تعطيل المؤسسات مشكلة، فقد تعرّضت المؤسسات لاقتحامات كثيرة، كما حدث للمؤتمر الوطني والهيئة التأسيسية

وقد جاءت استجابة "المؤتمر الوطني" لتعديلات لجنة فبراير 2014 تحت تأثير تقارب نفوذ القوى المتنازعة، ما شكل أرضية مناسبة للصراع السياسي، ونشر الحرب الأهلية في طرابلس وبنغازي. أدّت هذه المشكلات إلى ظهور النزاع على تسليم السلطة في 4 أغسطس/ آب 2014، ليُعلن استئناف نشاطه في 24 ديسمبر/ كانون الأول من السنة نفسها. ظلت آثار النزاع مستمرة في وجود مجلسي النواب والأعلى للدولة من دون حسم، لتسير ليبيا تحت نظام المجلسين بالمخالفة للإعلان الدستوري المؤقت، ولم يستطع الاتفاق السياسي (الصخيرات) تجاوز المُشكلة أو توفير معالجة سياسية أو قانونية تستوعب الصراعات الجارية.
أما الجانب الثاني، فيتعلق بمدى تماسك السلطة وتجانس المنظور الأمني والعسكري. وهنا، تبدو أهمية مساهمة التوسّع في العزل السياسي في تشكل مسرح العنف والاغتيالات، لتشمل كل مناطق البلاد، وظهور أشكال مختلفة من السلطات ودوائر النفوذ غير الرسمية. وهنا، يواجه الحراك السلمي أعباء انهيار القدرة على ضبط السلاح وتنظيمه، وتراكم فائض من العنف يفوق قدرة الحكومات المُقسَّمة، ويزيد تطور الصراع المسلح من مرحلة المجموعات، للمنظمات من مخاطر ظهور حراك سلمي، وخصوصاً في ظل أن انقسام الجيش بين حكومتين يمنح مجموعات المُسلحين ميزاتٍ يَصعب استبعادها. ولذلك، تواجه الدعوة إلى العصيان المدني أخطارا كثيرة لتشتت المنظور الأمني وضعف جدوى تعطيل المؤسسات.
في الخبرة الليبية الحالية، لا يمثل تعطيل المؤسسات مشكلة، فقد تعرّضت المؤسسات لاقتحامات كثيرة، كما حدث للمؤتمر الوطني والهيئة التأسيسية، حيث لم يُشكّل منع المؤسسات من الانعقاد أو الانسحاب منها ضغوطاً سياسية أو أمنية، فقد اعتادت على الانقطاع عن مباشرة وظائفها من دون إطاحتها أو حلها، واستمرت المؤسسات الثلاث في العمل بتأويلات قانونية تحت حالة الإكراه، والتفكّك.

يبدو الحراك أكثر اعتماداً على حشد اجتماعي وسياسي، من دون وضوح الرأي تجاه المسائل الخلافية وبدائلها المُمكنة

فيما يرتبط الجانب الثالث بمدى تنوع التركيبة الاجتماعية للمشاركين في الحراك، حيث تمثيل القبائل في اجتماع سُلوق، وترابط قوائم المرشحين على مستوى البلاد. وبظهور المحتجين، تدخل أجيال مختلفة للمطالبة بالتغيير السياسي. ونتيجةً لأزمة العزل السياسي، منتصف 2013، عادت القبيلة واحدةً من مكونات السياسة الليبية، حيث اتجهت الجماعات السكانية، لاحقاً، إلى تقاسم مؤسسات الخدمة المدنية في مستوى البلديات والمُدن، وقللت من وصول السلطة المركزية إلى أطراف المجتمع. ولعل ما حدث في سُلوق يشير إلى تغير في سلوك الكيانات الاجتماعية نحو التحرّر من الأعباء السياسية والتَحرك نحو معالجة الأزمة العامة بتجميع فواعل اجتماعية / سياسية تكون الأرضية الجديدة للحراك نحو بناء السلطة وتجاوز الوضع القائم.
وبشكل عام، تكشف هذه السياقات مدى تعقيد الأزمة السياسية، فمنذ أكتوبر/ تشرين الأول 2011، ظل الليبيون واقفين أمام أزمة تعريف نظام الحكم المناسب ونموذج إعادة بناء الدولة من دون تقدّم يُذكر.
وبالتالي، قد يوفر عجز السلطات الشامل عن الخروج من حالة الانسداد أو الاستجابة لتحسين الخدمة مبرّراً لاستمرار الحراك، غير أن احتمالية نجاحه تبدو صعبةً للغاية، حيث يبدو أكثر اعتماداً على حشد اجتماعي وسياسي، من دون وضوح الرأي تجاه المسائل الخلافية وبدائلها المُمكنة. وبالتالي، سوف يتوقف تقدم الحل السلمي على حزمة توجهات، تكوين كتلة اجتماعية حرجة، ترقية الثقة بالتراضي في خروج السياسيين من المشهد السياسي، والاقتراب من نموذج لوحدة الدولة يُقلل من الوعي بها كثلاث مناطق والحقّ المُشترك في مواردها.