الحالة النفسية للشاعر... صفر
(خوان ميرو)
"إني رأيتُ الحزنَ للحزنِ ماحياً/ كما خطّ في القرطاسِ رسمٌ على رسم".. على هذا المنوال يذهب أبو العلاء المعرّي بعيداً بسوداويته، وهو سيّد الحزانى في الشعر العربي. ومع استغرابنا من شدّة حزنه، نتفهمّه بسبب حياته المُعتِمة بفقدان أهله وبصره، لأنها أدّت به إلى نوبة اكتئاب شديدة ومزمنة، بتعبير عصرنا. ماذا لو عاش المعرّي بيننا، واستعان بأطبّاءَ نفسيين، وبمثبّتات المزاج ومثبّطات الكآبة، هل كان ليكتب بهذه السّوداوية؟
كثير من مقولاته الشهيرة تشبه في معناها عبارات يقولها الناس في زمننا، لأنّها تعبّر عن حالات نفسية كئيبة. فيقول الشاعر الحزين "تعبٌ كلّها الحياة فما أع/ جب إلا من راغبٍ في ازدياد". كان المعرّي إذاً "لا إنجابياً" منذ قرون بعيدة، وعدمياً لا يرى جدوى من إنجاب بشر جدد، قبل العدميَّين الشهيرَين الروماني إيميل سيوران والألماني أرتور شوبنهاور، طالما أن "ضجعةُ الموتِ رقدةٌ يستريح الجسم فيها". لكنّه يستبق هذا البيت، بالقول إن العالم الآخر الذي يأخذنا إليه الموت هو عالم شقاء لأكثر الناس. "إنما ينقلون من دار أعمال إلى دار شقوةٍ أو رشادِ". ما الحلّ إذاً في نظره؟ لا شيء أقلّ من التوقّف عن التناسل وانقراض البشر، للنجاة من شقاء الحياة وشقاء الموت.
لو درسنا الحالة النفسية للكُتّاب والشعراء القدامى، من رفاق المعرّي، لفهمنا أسباب ميلهم إلى أنواع من المشاعر بذاتها، وفسّرناها بأمراض وحالات نفسية. فلا تفوتنا العدوانية التي تظهر في الهجاء المدجّج بالتنمّر والعنصرية والقذف العلني، مثل الفرزدق وجرير، أو فقدان الثقة مع المبالغة في الأمجاد الشخصية عند أمرئ القيس، وجنون العظمة عند المتنبي.
وكان مقرّر مادة اللغة العربية في إحدى السنوات الدراسية يفرض تحديد الحالة النفسية للشاعر، خلال تحليل النّصوص الشعرية الأندلسية. كنتُ أُجيب بجملة واحدة تكفي في معظم الحالات، لغياب أيّ مؤشّر على الحالة النفسية لغلبة الجانب الذهني على غالبية القصائد.
كان بعض الزملاء يدبّجون سطوراً طويلة تشرح الحالة، فالشاعر كان حزيناً حزناً شديداً، وانتابه الضيق واليأس، واشتدّت به الظنون. يكاد لا يرى سوى الغيوم في أفقه. فما فائدة الحياة وهي تعانده، ولا تمنحه قربَ حبيب، ولا تمنع عنه بغضَ حقود؟
في حالة قصائد الحُبّ، تأتي الإجابات على هذا المنوال: هكذا تلتهب مشاعر الشاعر، ويكاد يرقص في جنائن الحُبّ والغرام، هو الذي لا ينوبه من محبوبته سوى الصدّ والتمنّع. لكنّه لم ييأس فالهوى قد سكنه ولعنة الحُبّ أعمته، ودفعته إلى جنون لا شفاء منه.
كانت هذه الديباجات السفسطائية تضحكني، لكنّني اضطررت إلى الانضمام إلى جوقة المُفتَرين، حتى ترضى عني الأستاذة. ولدهشتي تفوّقتُ في تفسير الحالة النفسية للشاعر المسكين، الذي تقلّب في قبره بسبب ذلك الافتراء كلّه، الذي لم يتفوّق عليه سوى المُعلِّقين العرب في تغطية أنشطة الرؤساء والملوك، ومباريات كرة القدم.
الشعراء في هذا الزمان، مكتئبون سريرياً، وشعرياً، ولا يحتاجون لا جهداً ولا افتراءً لوصف الحالة النفسية "الصّفر على الشمال". ولا يمكن عدّ الشعراء والكُتّاب الذين أقرّوا إصابتهم بالاكتئاب المزمن، فيما الذين لم يفعلوا أكثر بكثير. رغم أن إيقاع الحياة المعاصر لا يعرف عطشاً مثل عطش صحاري الجزيرة العربية، ولا غربة في صراعات الكبار، ولا حرماناً عاطفياً كما في العصور القديمة. لكن الشعراء غرقى في حياة إيقاعها لا يرحم.
لعلّ الآفة الأسوأ التي أصابت المعرّي ليست فقدان بصره ولا والديه، بل إصابته بالاكتئاب، وهو مرض أخطر من أشدّ الإصابات الجسدية. إذ يمكن لمن فقد الحركة أو البصر أو المصاب بمرض خطير، أن يعيش راغباً في العيش وساعياً إليه بقوة، أمّا المكتئب فهو شخصٌ لا نقصان جسديا فيه، مع ذلك يرغب في الموت ولا يشعر بطعم الحياة ومعناها، وهذا أسوأ ما يصيب الإنسان.
ويلتقي المبدعون وغير المبدعين في هاوية الاكتئاب، فحتى قليلو المروءة والقساة، وهم مصدر الأذى الأكبر للأوادم حولهم، يشتكون الحساسية النفسية. قد يكون أحدهم "تأبّط شراً" في الخلائق، ومع ذلك يزعم حساسية المعرّي وعذوبة الرومي. ولعلّ هشاشتهم النفسية دافعهم للعدوانية، لكنّها لا تغفر لهم.