الجنرال الخشبي

الجنرال الخشبي

08 يونيو 2021
+ الخط -

احتار غشيم في أمره، فسأل ذات يوم حكيما: ما الفرق، يا حكيم، بين الرئيس والزعيم؟ ففكر الحكيم قليلا، ثم أجاب: الرئيس، يا غشيم، يأتي عبر الانتخابات، ويذهب عبر انتخابات تالية. والزعيم؟ سأله الغشيم، فقال: الزعيم يأتي عبر الانتخابات، ويذهب لزقة افرنجية أو ...
وصمت الحكيم، فسأله الغشيم: أو ماذا؟ فقال الغشيم: الزعيم يأتي بالانتخابات، ولا يذهب إلا بالانقلابات، ولكن الانقلابات شأنها شأن الفيروسات، تكلل بالنجاح عدة مرات ضد زعماء يصدقون الشعب الذي يهتف بحياتهم، ثم تكتسب أجيال الزعماء اللاحقة مناعةً قطيعيةً ضدها، وخبرة في وأدها قبل أن تحصل، أجيال من الزعماء لا تصدّق تلك الشعوب المنافقة التي تخرج بالملايين هاتفة إلى الساحات. ولذلك، نادرا ما نشهد في زمننا انقلابا عسكريا، وإن حدث فإن المنقلب يهرول، هو وجنوده، مسرعين إلى صندوق الانتخابات الذي سيكون إثباته ودليله الحقيقي على أنه جاء بإرادة الشعب، وطريقه إلى الكرسي. وفي أحيان كثيرة، يبقى الزعيم الثائر فترة بدون أي منصب رسمي، وينتظر الصندوق الذي يمنحه الشرعية. وهناك الميكروثورات، وهو اسم آخر للانقلابات، حيث تقوم بها عصبة من العسكريين فجرا، ثم يستيقظ صباحا ليجدها قد حدثت، وتشنف آذانه بالبلاغات رقم واحد، المرفقة بالمارشات العسكرية المثيرة للحماسة، أو بأغان حماسية كـ"خبطة قدمكن" على سبيل المثال، وأحاديث عن العمال والفلاحين وصغار الكسبة. والفرق الوحيد بين الانقلاب والميكروثورة أن الانقلاب يكون على رأسه قائد عسكري، أما الميكروثورة فعادةً ما يكون وراءها حزبٌ أو حركة أو أي جماعة تحمل صفة التنظيم بين قادته عسكر كثيرون، يصلون إلى الكرسي، فيشكلون مجلسا جماعيا، ثم تبدأ لعبة الكراسي، حتى يبقى واحد منهم فقط. ولكن هذه الطرق تكاد تخرج من الموضة في زمننا الحاضر، فالانتخابات، يا ولدي، أقوى مفعولا بكثير من الدبابات والميكروثورات، لأن لذلك الصندوق الخشبي قوة على الإقناع تفوق بكثير قوة الدبابة، تلك الكتلة المعدنية ذات المدفع الذي يشبه خرطوم الفيل، والتي يبعث صرير سلاسلها الرعب في النفوس. وأذكر هنا قصة درسناها في أحد الصفوف المدرسية، تفيد بما معناه بأن رهانا قد حدث بين الشمس والريح، حيث قالت الريح إنها تستطيع أن تجبر أعرابيا كان يسير في الصحراء على خلع عباءته، بينما قالت الشمس إنها هي من يستطيع فعل ذلك. وبدأت الريح، لكي تثبت ما قالته، فهبت على الأعرابي بشكل عاصف وجنوني، فتمسّك الأعرابي بأطراف عباءته، فزادت الريح قوتها جنونا، فلم تفلح في جعله يتراجع، وأثارت عليه الرمال، وأعمت عينيه، ولكنه ازداد تشبثا بعباءته، وكادت الريح أن تضع فوقه الكثبان وتدفنه حيا، قبل أن تعلن عجزها عن قدرتها على خلع عباءة الأعرابي. وهنا جاءت الشمس لتثبت أقوالها، فرفعت حرارتها، بعد أن تمالك الأعرابي أعصابه، وتنفس صعداءه. ورويد رويدا، بدأت علامات الاستسلام تظهر على ملامحه، إلى أن وجد نفسه يخلع العباءة ويضعها على كتفه.
وللصندوق الانتخابي في مثالنا هذا قوة إقناع الشمس، بينما الريح هي الدبابة. والحديث هنا ينحصر في قوة الإقناع، وللصندوق ميزات كثيرة أخرى، فهو الجنرال الخشبي في جيش الزعيم. ويمكن القول إن له الرتبة الأعلى في ذلك الجيش بعد الزعيم. وإضافة إلى ذلك، هو لا يملك القدرة على القيام بالانقلابات، ولا يشكل أي خطر على الزعيم، ولا يكلفه نفقات، فهو لا يأكل ولا يشرب ولا يقبض الرواتب، ويمضي حياته بين الانتخابات نائما في المستودعات. ولذلك هو سيبقى إلى أجل غير مسمى، بالطريقة المفضلة لصناعة الزعماء.
ولماذا كل هذه الدبابات والطائرات إذاً، يا حكيم، إن لم تعد لها حاجة للصعود إلى الكرسي؟ سأل الغشيم: فأجابه الحكيم: هذه الدبابات، يا ولدي، لعدم النزول عن الكرسي.

ممدوح حمادة
ممدوح حمادة
كاتب وسيناريست ورسام كاريكاتير سوري