الجسم يتذكّر والمجتمع أيضاً

18 ابريل 2025
+ الخط -

مرّ معي قبل أيّام عنوانٌ ملفتٌ لكتاب لم أسمع عنه من قبل، "جسمك يتذكّر كلّ شيء" (نقله إلى العربية محمد الدخاخني، دار الكرامة، القاهرة، 2024)، عن الربط بين ذاكرة الجسد والصدمات النفسية التي يتعرّض لها أحدنا، وتأثيرها في أحوالنا الصحّية والنفسية. الكتاب من تأليف الطبيب النفسي الهولندي بيسيل فان دير كولك، المتخصّص في علاج الصدمات واضطرابات ما بعد الصدمة. يمكن تلخيص الكتاب (بعد اطّلاع كاتبة هذه السطور عليه في أحد المواقع المتخصّصة) في ثلاثة محاور: أولها الصدمة النفسية وتأثيرها العميق بوصفها تجربةً تحتفظ بها ذاكرة الجسد، وتترك أثراً سالباً في الجسد والعقل، وتسبّب الاضطرابات النفسية والأمراض العضوية معاً، وليست مجرّد تجربة أو ذكرى سيئة. ثانيها، تأثير الصدمة في الدماغ، وهو محور تشريحي محض، فالصدمة تؤثّر في مراكزَ محدّدةٍ من الدماغ، مثل اللوزة الدماغية والقشرة الجبهية، وهما المسؤولتان عن الاستجابات العاطفية والتفكير المنطقي. ثالث هذه المحاور العلاج الشامل، وهنا يتحدّث الكاتب عن دور العلاج الذي يشمل الجسد والعقل معاً، وأهميته في عملية التعافي من اضطرابات ما بعد الصدمة، ويقترح علاجاتٍ طبيعيةً مثل اليوغا والتأمّل والمشي والعلاج بالحركة، وهي علاجاتٌ تعمل في تحرير ذاكرة الجسد ممّا اختزن فيها من ذكريات سيئة، ما يُخفّف كثيراً من آثارها السالبة في أجسادنا وأرواحنا.

لم أقرأ الكتاب كاملاً بعد. ولكن، يمكنني تخمين أن ما يتحدّث عنه الكتاب يخصّ المجتمعات المتطوّرة أو الطبقات المجتمعية ذات المستوى المادّي المرتفع في بلادنا العربية، فمتطلّبات العلاج من اضطرابات ما بعد الصدمة هي بمثابة ترف مبالغ فيه لدى السواد الأعظم في بلادنا العربية الغارقة في الفقر والحروب والتهميش والجهل والخرافات والغيب. وهنا قد يكون من المناسب الحديث عن مسلسل "لام شمسية"، الذي عُرض في رمضان الماضي، ذلك أن حكايته قد تكون مثالاً جيّداً عن كيفية احتفاظ ذاكرة الجسد بالصدمات النفسية القديمة، وظهورها لاحقاً في صورة اضطرابات سلوكية تؤثّر في حياة الشخص وعلاقته بالآخرين. لكنّ المسلسل قد يناسب شريحةً معيّنةً من المجتمع المصري أو العربي، وهي الشريحة المقتدرة مادّياً والمتعلّمة، التي لديها ما يكفي من الغطاء المادّي والمجتمعي للعلاج النفسي والشفاء والحماية. وهو ما ليس محقّقاً أو متاحاً لشرائح قد تشكّل السواد الأعظم من هذه المجتمعات، لأسباب مادّية واجتماعية وقيمية أيضاً.

لنأخذ مثالاً آخر ينطبق على الحالة السورية، إذ يتعرّض السوريون منذ عام 2011 إلى سلسلة من الأحداث الصادمة، كالقمع والاعتقالات والتعذيب والهروب عبر البحار والغابات، والمجازر التي لم توفّر أحداً، والمستمرّة، فلكلّ فرد سوري حكايته الخاصّة مع صدمةٍ من صدمات ما حدث، تضاف إلى الحكاية السورية الجمعية مع تغوّل العنف والإجرام. وهو ما أنتج أجيالاً لا يمكن لذواكرها أن تختزن سوى العنف والحقد والكراهية، وهو ما ظهر بعد سقوط نظام الأسد، المسبّب الأول للكوارث كلّها التي نعيشها.

مع هذه الصدمات العنيفة المتلاحقة كلّها، هل ينفع التأمّل واليوغا والعلاج الحركي مع السوريين لتحرير ذاكرة أجسادهم من تلك الصدمات وآثارها النفسية والجسدية العميقة؟... قد يتاح هذا لبعض السوريين ممّن استقروا في مجتمعات آمنة تكفل حقَّهم في العلاج النفسي مادّياً ومعنوياً. لكن، ماذا بخصوص ملايين السوريين الذين يعيشون في المخيّمات (سابقاً وحالياً)، أو المشرّدين في البراري خوفاً من القتل، أو السوريين المهجّرين، الذين فقدوا بيوتهم ومصادر رزقهم؟ ماذا أيضاً بخصوص الأيتام وأطفال الشوارع؟ ماذا بخصوص النساء اللواتي يقتلن بأيدي عائلاتهن لمجرّد اختطافهن من عصابة ما؟ ماذا بخصوص فائض العنف النفسي والمادي واللغوي الذي يغرق فيه السوريون في كلّ مكان؟

تحتفظ ذاكرة المجتمع بهذا النوع من الصدمات العنفية الجمعية، وليس ذاكرة أجساد الذين تعرّضوا لها فقط. أمّا الشفاء، وتحرّر المجتمع منها، فيحتاج سنوات طويلة جدّاً، وأجيالاً جديدةً قادمةً خفّف الزمن من أثر العنف على جينات ذواكرها الفردية والجمعية.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.