الجزائر .. لا يستقيم الإعلام والنظام أعوج

الجزائر .. لا يستقيم الإعلام والنظام أعوج

06 مايو 2021
+ الخط -

كثّفت مؤسّسات عديدة في الدّولة الجزائريّة الرّسميّة في الأسابيع الأخيرة، تنظيم أيام دراسيّة وندوات علميّة في موضوع الأمن الإعلاميّ، على أساس أنّ الإعلام أمسى يشكّلُ تهديدا حقيقيًا لأمن الجزائر، فظهرت هذه النّدوات والأيام الدّراسيّة كأنّها تبحث عن بلورة مفهوم جديد للأمن الإعلامي، أو عن تشخيص الأسباب والعلل حتى تستطيع كتابة وصفة لعلاجه.

كشفت النّدوات هذه أنّ منظّميها أخطأوا كثيرا من الأهداف، حيث أكّدوا أنّها أتت ردّا على الهجمات الإعلاميّة التي تتعرّض لها الجزائر، وغاب عنهم أنّ الهجوم يتطلّب ردًا، وليس مجرّد تنظيم ندوات، بل ردّ يكون بحجم قوّة الهجوم، إلاّ أنّ هذه الندوات أبانت أيضا، ليس فقط عجز النّظام عن وضع استراتيجيّة للهجوم، لكنّها فضحته بأنّه لا يملك حتى خطّة إعلاميّة مضادّة، مثلما أوضحت أنّ النّظام الجزائريّ غير محصّن، ويفتقر إلى مناعة إعلاميّة. والأدهى والأَمَرّ أنّ هذه النّدوات روّجت الهجوم أكثر ممّا روّجت استراتيجية الرّد، إلى درجة أنّ النّظام الجزائري برز عبر هذه النّدوات في شكل الضّعيف المتباكي الذي لا يملك سوى الشّكوى من جوْر الغير وظلمهم، وغير قادر على بناء قواعد استراتيجيّة لإرساء أمن إعلامي وطني.

الفشل في وضع لبنات الأمن الإعلامي الذي تعانيه الجزائر هو تتمّة للفشل الذي طاول قطاعات كثيرة، في مقدّمتها الأمن الاقتصادي والغذائي والسّياسي وحتى الأمني، فبعدما غاب عن النّظام منذ سنوات الوعي بضرورة إحقاق أمن إعلاميّ، عندما أراد تشخيص ما يحدث حوله، اكتشف أنّها حرب إلكترونيّة!

معضلة حقيقية يواجهها النّظام الجزائريّ اليوم، لا يجد أيّة وسيلة إعلاميّة تدافع عنه وتحقّق رجع صدى إيجابيا

في الزّمن الذي يعيش فيه العالم تدفّقا إعلاميًا رهيبًا، ويشهد كمّا هائلاً من الأخبار، وسيلاً جارفًا من المعلومات، بقي النّظام الجزائري سنواتٍ غافلاً عمّا يجري حوله، ليصحو من غيبوبته بعدما أيقظته صيحات الحراك الشّعبيّ، ذاهلا غير قادر على استيعاب الدّويّ التي أحدثه انفجار الشّارع، فقبل أن يستفيق من صدمة هشاشة نظامه السّياسي تلقّى صدمة هشاشة نظامه الإعلاميّ.

لم يكن محتوى الإعلام الجزائري قط عاكسًا اهتمامات الشّعب، بعيداً عن الانسجام مع طموحاته، فهو تربّى على الاكتفاء بملامسة مشكلات النّاس الجانبيّة المرتبطة بالشّأنين، الثّقافي والاجتماعي، إلى درجة أنّ وسائل إعلامنا تخصّصت بالأحداث فقط، حتى سُمّيت (صحافة ذَبَح ونَبَحَ ونَكَحَ). وعندما تتطرّق إلى المواضيع السّياسيّة والاقتصاديّة، فكلّ ما تنشره أو تبثّه أو تذيعه، لا بدّ وأن يكون متطابقًا مع الخطّ الرّسميّ للنّظام، فظهرت كأنّها وسائل مدجّنة، ومدُرّبة، ومروّضة على اللّجوء إلى التّبرير عوض التّحليل، وانحصر عملها في تقديم تبريراتٍ لما يحدث بترديد الخطاب نفسه، باللّجوء إلى القوالب الجاهزة والأساليب المستهلكة في معالجة المواضيع، كأنّها النّاطق الرّسميّ للدّولة. وبالتّالي، عندما يفقد النّظام مصداقيّته، من المنطقيّ جدًا أن تتعرّى هذه الوسائل من كلّ مصداقيّة.

أضحى النّظام الجزائري يتمرّغ غبطةً وهو يقرأ ويسمع ويشاهد معظم وسائل إعلام الرّيع، وهي تمتدحه وتتشدّق بالإطناب والمبالغة بكلّ انجازاته، وهو يجهل أنّ ذلك يعتبر استفزازا صارخا لمشاعر الشّعب الذي يعيش يوميًا عمليّات انحدارٍ نحو الأسفل، ولم يطلب هذا النّظام من وسائله الاعلاميّة أن تتحلّى على الأقلّ بالنّزر من الموضوعيّة من دون تضخيم أو إثارة، أو أن يطلب منها عدم مدح مشاريع وهميّة أو برامج ليست إلاّ مجرّد وعود كاذبة، باعتبار أنّ مساندة الحكومة لا تعني أبدًا التّضليل والتّعتيم.

فتْح النّظام الجزائري قطاع الإعلام أمام السّماسرة والوصوليين والانتهازيين كشف، منذ البداية، أنّ حربه في سبيل تحقيق أمنه الإعلامي نهايتها هزيمة نكراء، لأنّها حربٌ تتطلّب التّسلّح بإعلام حرّ ومسؤول لا ينحاز لسلطةٍ أو لمال، باعتبار أنّ وسائل الإعلام تستمدّ قوّتها من مدى تأثيرها في جمهورها، فعوض تقويتها بصفتها سلطة رابعة، جعل منها سلطة راكعة، ما دفع المواطنين إلى تبنّي مواقف معارضة كلّ ما تدعو إليه وسائل الإعلام التي أصبحت، بغباء، تساهم في توليد أفكار وآراء مناهضة للنّظام.

.. هي معضلة حقيقية يواجهها النّظام الجزائريّ اليوم، فهو لا يجد أيّة وسيلة إعلاميّة تدافع عنه وتحقّق رجع صدى إيجابيا، ووجد أنّ كلّ ما تستطيع هذه الوسائل فعله، هو ترديد خطابه، لأنّها عاجزةٌ عن إنتاج خطاب جديد بتقنيّات وفنّيّات جديدة، لأنّها لم تتعوّد على الإبداع، إنّما اعتادت فقط على اجترار خطابات النّظام نفسها، فاكتشف، بعد فوات الأوان، أنّه لا يمكنه الاعتماد عليها، حيث أثبت الواقع بأنّها تضرّه أكثر ممّا تنفعه، بعدما أضحت مادّتها الإعلاميّة مثل الزّيت الذي يُسكب على النّار، وصارت تستفزّ النّاس وتحرّضهم أكثر على التّطرّف في المعارضة، بعدما جعلت مضمونها تحدّيًا لمواقف الشّارع السّياسي، فعوض أن تفتحَ مجالها للحوار والنّقاش وطرح مختلف الأفكار للبحث عن حلول، تبنّت طروحات النّظام باعتباره الأب الطّبيعي والشّرعيّ لها وولي نعمتها.

جاء حديث النّظام عن الأمن الإعلاميّ جدّ متأخّر، فلو ترك في السّابق وسائل الإعلام تعمل بكلّ حرّيّة ومسؤوليّة، حتى يجعلها مصادر يستقي منها المعلومات الخاصّة بأهمّ القضايا التي تؤثّر على الأمن الوطنيّ، لما وصل إلى ما هو عليه اليوم. ولو منحها فرصة لتلعب دورًا في بناء منظومة الأمن الإعلاميّ، وتقوم بوظيفتها للحدّ من الانحراف الفكري، والتّصدّي لكلّ السّلوكات التي من شأنها التّأثير في مبادئ المجتمع وقيمه، وشجّعها على العمل على غرس ثقافة الانضباط والالتزام بالقانون، لما وجد نفسه اليوم وحده كالغريق وسط أمواج الحراك الشّعبي، ويكتشف في الأخير أنّه يدفع فاتورة ربط وسائل إعلامه بسياسته الفاشلة التي جعلت من الإعلام مصدرا للخلل الأمني، بعدما أوكلت إليه مهام تنويم الشّعب عوض توعيته.

تربّى محتوى الإعلام الجزائري على الاكتفاء بملامسة مشكلات النّاس الجانبيّة المرتبطة بالشأنين، الثقافي والاجتماعي

محاولة النّظام طرح الأمن الإعلاميّ حلّا للمشكلات السّياسيّة بالالتفاف حول التهديدات التي يشكّلها الإعلام مراوغة مفضوحة، تنمّ عن جهلٍ مطبقٍ في التّعامل مع المستجدّات، حيث بقي يعتقد أنّ إحكام الهيمنة على الوسائل ستساعده في مواجهة إعلام الحراك الشّعبيّ، فظهر النّظام كمن يبحث عن المسمار في رأسه، وهو مغروس في قدمه.

الأدهى أنّ طرح النّظام مسألة الأمن الإعلامي جعله يظهر في صورة القاصر المغلوب على أمره، حيث لم يقدّم أيّ عمل مبتكرٍ أو خلاّق في مواجهة كل ما يُعرَض في مواقع التّواصل الاجتماعيّ، فالنّظام بقي ينتهجُ الأسلوب نفسه الذي لم يعد يهضمه أيّ أحد، لا يزال يتّجه إلى جمهورٍ مستهدَف معلوم الذي هو الشّعب بخاطاباتٍ لتحذيره من جهاتٍ مجهولةٍ وأياد خفيّة وقوى أجنبيّة، وهو يجهل أن هذا الشّعب لا يمكنه فعل أيّ شيء طالما أنّ عدوّه المزعوم مجهول، وبالتّالي رسائل النّظام لحفظ النّظام لم تعرف أبدًا أيّ رجع صدى لها.

ينبغي أن يدرك هذا النظام ويعي جيّدًا أنّ الإعلام من بين أهمّ الوسائل للحفاظ على أمن الدّولة واستقرارها، وليس للدّفاع عن أمن الجماعة المتسلّطة في الدّولة واستقرارها، فالشّعب يعيش ويرى منذ سنوات كيف انهار سُلّم القيم في المجتمع، ولم تتدخّل هذه الجماعة لصيانته والدّفاع عنه، لكنها بمجرّد أن شعرت بأنّ الهجمات الإعلاميّة يمكن أن تهدّدها في أمنها وحتى في وجودها، التفتت إلى الإعلام، ليس في محاولة لإنقاذه للدفاع عن قيم الشّعب، ولكن للدّفاع عن نفسها.

طرح النظام مسألة الأمن الإعلامي جعله يظهر في صورة القاصر المغلوب على أمره

.. هل من العدل والإنصاف إلقاء النّظام كلّ اللّوم على وسائل الإعلام؟ لا أحد ينكر أنّ وسائل الإعلام كانت، من حين إلى آخر، تتناول مواضيع جدّ حسّاسة، في مقدّمتها تدنّي المستوى التّعليميّ، وتفكّك المدرسة الجزائريّة، مثلما كانت تحذّر من انتشار أمراض اجتماعيّة كثيرة، وتتطرّق إلى استفحال ظواهر عديدة خطيرة، وتنامي سلوكات سّيئة كثيرة وتفشّي أفكار هدّامة عديدة، وكلّها تهديداتٌ تمسّ، بشكل مباشر، أمن الجزائريين الإعلاميّ الذي يعني، بالدّرجة الأولى، الحفاظ على وحدة الشّعب، وتعضيد أواصر تماسكه، وتمتين روابط تلاحمه، غير أنّ النّظام لم يأبه إطلاقًا لمثل تلك المخاطر. وعندما استفاق من غفلته، وجد أنّ الحلّ المستعجل يكمن في إطلاق المواقع الإخباريّة الإلكترونيّة لمجابهة كل ما يطاوله عبر الشّبكات العنكبوتيّة من هجومات، متجاهلاً أنّ التّركيز على الصّحافة الإلكترونيّة سيكون بمثابة الانتقال من منطقة متعفّنة إلى منطقة متعفّنة أخرى، حيث سيغيّر المكان من دون أن يغيّر العفن، لأنّ منطق التّفكير الصّحيح يفرض عليه، لإنجاح هذا الانتقال، أن يسبقه التّفكير في تطهير السّاحة الإعلاميّة من صحافة الرّيع ومن كلّ القوانين المكبّلة لها.

المواقع الإخباريّة الإلكترونيّة التي يدأب النّظام على إطلاقها لن تستطيع حلّ مشكلة الأمن الإعلاميّ، لأنّها استجابة غير مدروسة لواقعٍ فرضته ظروفٌ معيّنة، وليست وفق رؤية استراتيجيّة متكاملة لتحقيق أهداف محدّدة، لأنّ التّضييق سيطاولها طالما أنّها تبقى خاضعة لقوانين تتحكّم فيها أيديولوجية الفكر السلطويّ، وتسيّرها سلوكاتٌ ترفض حتى منح الاعتماد لصحافيي القنوات الأجنبيّة على الأقل لتقديم صورة حسنةٍ عن هذه الجمهورية الجديدة التي ترفض أن تتعلّم أن المتلقّي عندما لا يجد أيّ خبر عن الجزائر في وسائل الإعلام الجزائريّة أو الأجنبية، سيبحث عنه بالتّأكيد في وسائل التّواصل الاجتماعيّ. وعليه، إذا كان النّظام زجّ نفسه في معركة خاسرة مع مواقع التّواصل الاجتماعيّ، فهو يستحقّ هذا، فهذا ما جناه على نفسه.

إرساء دعائم الأمن الإعلامي لا يكون بمواجهة الحراك الشّعبي، إنّما بفتح أبواب الحوار حول مستقبل هذا الحراك ومستقبل هذا النظام أيضًا

مشكلة الإعلام في الجزائر سياسيّة، قبل أن تكون إعلاميّة بحتة، فلأيّ إعلام في أيّ دولة سياسته وإطاره المرجعي. وعلى النّظام الحالي إدراك أنّ وسائل الإعلام الجزائرية سطّر إطارَها المرجعي نظام سياسي فاشل أفرغها من كلّ القيم والمبادئ، وعوض تحويلها إلى أعمدة صلبة لبناء دولة قويّة وشعب متماسك، حوّلها إلى أسلحةٍ تآكلت مع الزّمن، حتى أصابها الصّدأ، وعليه أصبح الاعتماد عليها لتحقيق أمن إعلاميّ كمن يستعمل ذخيرةً من خراطيش بيضاء مبلّلة لحماية نفسه.

النّظام، قبل أن يبحث في أمنه الإعلاميّ، عليه النّظر أوّلاً في القطيعة بين شارعه السّياسي ومؤسّساته السّياسيّة، لأنّ هذه القطيعة تنتج عنها سلبيّات خطيرة، لا يمكن تجنّبها إلا بالإسراع في إصلاحاتٍ سياسيّةٍ حقيقية تفتح الأبواب أمام مشاركةٍ سياسيّةٍ واسعة، يشارك فيها الشّعب بمعيّة وسائل الإعلام، لأنّ الأمن الإعلامي لن يتحقّق إلاّ بتفاعل الإعلام مع الشّعب، حين يرفع مطالبه ويساعده في تحقيق أهدافه، إعلام يلتزم بحمل رسائل الشّارع بكلّ حرّيّة ومسؤوليّة.

إرساء دعائم الأمن الإعلامي لا يكون بمواجهة الحراك الشّعبي، إنّما بفتح أبواب الحوار حول مستقبل هذا الحراك ومستقبل هذا النظام أيضًا، قبل أن تنحلّ روابط الحراك وتتفكّك أجزاء النّظام، طالما أنّ الجميع في مهبّ الرّيح. صحيحٌ أنّ الحراك الشّعبي يسير بخطوات متباطئة، لكنّ شعاراته التي تتلوّن كلّ أسبوع بمطالب أكثر حدّة وتطرّفا يمكنها التّأثير في وتيرة مساره، والأمن مطلب الجميع، وتجنّب الانزلاقات نحو المجهول يكون بإجراء مراجعاتٍ عميقة لإصلاح الاعوجاج، بالنّظر إلى كلّ نقاط الضّعف، باعتبار أنّ الأمن كلّ لا يتجزّأ.

رشيد حمليل
رشيد حمليل
كاتب وأستاذ جامعي جزائري، أستاذ محاضر في كلية علوم الإعلام والاتصال في جامعة الجزائر، له عدة كتب.