الجريمة الأكثر ترويعاً
(وضّاح مهدي)
توثّق سجّلات محاكم الجنايات الكُبرى جرائم كثيرة ذات طابع عائلي، وبحسب خبراء قانون، هي الأكثر شيوعاً في الأردن، وتظلّ الأخبار المنشورة عن جرائم تقع بذريعة الدفاع عن الشرف مألوفةً، بل مقبولةً ومبرّرةً لدى فئات متخلفة من المجتمع، تنظر إلى القاتل بعين الإعجاب.
جرائم بشعة تروح ضحيّتها (في العادة) فتياتٌ صغيراتٌ بريئاتٌ، كما حدث مع إحدى الفتيات، لم تتجاوز السادسة عشرة عاماً، أزهق شقيقُها روحَها حين اكتشف أنها تقتني سرّاً هاتفاً نقالاً (!). تذهب حيوات تلك الصغيرات هدراً فيما يقضي المجرم القاتل بضعة سنوات حكومية (تصبح السنة فيها تسعة أشهر)، سنوات قليلة لا تتناسب بأيّ حال مع جسامة الجريمة، ذلك أن العائلة غالباً ما تقوم بالتنازل عن الحقّ بالادعاء الشخصي، ما يتيح للقاتل الخروج في زمن قياسي، ومتابعة حياته؛ يتزوّج وينجب ويعمل ويسافر، وكأنّ شيئاً لم يكن.
وتقع في أحيان كثيرة جرائم قتل بين أفراد العائلة تحت عنوان الخلافات العائلية المتعلّقة بالإرث والممتلكات، فيقتل الأب ابنه، ويقتل الابن أباه، أسلوباً وحيداً معتمّداً لتسوية الخلافات الممكن تفاديها بسهولة، لو حكّم الأفراد العقل حقناً للدم، وحفاظاً على تماسك الأسرة. يذهب محامو الدفاع في حالات كهذه إلى التذرّع بحجّة المرض النفسي، أو الجنون، أو تعاطي الكحول والمواد المخدّرة الذي يفقد موكّليهم الأهليةَ، سعياً إلى تحويل مسمّياتهم من مجرمين قتلة إلى حالات مَرضية مستعصية من شأنها تخفيف العقوبة إلى حدّها الأدنى. وينجحون في قضايا جنائية كثيرة في الحصول على حكم بالبراءة رغم ثبوت واقعة القتل.
غير أن الجريمة التي حدثت أخيراً في الأردن، وشغلت الرأي العام، وأثارت ضجّةً وتفاعلاً كبيرين في مواقع التواصل المحلّية والعربية لفرط بشاعتها، تظلّ خارج التوصيفات والتصنيفات كلّها، حين أقدم أب تجرَّد من إنسانيته على إلقاء طفلَيه؛ رضيع لا يتجاوز عمره ثمانية أشهر وشقيقته البالغة خمس سنوات، في سيل الزرقاء. نفّذ الأب السفاح جريمته المروّعة في ساعات الصباح الباكر، حين يكون تدفّق الماء في أوجه، ما دفع بالصغيرين بعيداً في مجرى السيل، وذلك انتقاماً وحرقاً لقلب زوجته الأولى إثر خلافات عائلية بينهما دفعت بها إلى التقدّم بالشكوى ضدّه أمام إدارة حماية الأسرة، واعترف لدى الجهات الأمنية بدم بارد بفعلته الشنعاء من دون إبداء أي مظاهر ندم.
جريمة غير مسبوقة أقدم عليها الأب القاتل مع سبق الإصرار والترصّد، وكان قد هاتف الزوجة ليبلغها أنه تخلّص من ولديها. لم يكن ذلك الأب المجرم مجنوناً أو مريضاً نفسياً أو متعاطياً مهلوساً. كان ببساطة مُجرَّد رجل حاقد غاضب بسبب لجوء زوجته إلى الجهات الأمنية المختصّة، وقد سيطر عليه حسّ الانتقام المدمّر، وهان عليه أن يُلقي بطفليه في سيل جارف، وكشف الطبّ الشرعي عن تفاصيل موتهما الوحشي المؤلم، إذ ارتطما بالحجارة، وكان في جسديهما الكدمات والجروح، ما يعني أنهما تعرّضا إلى عذاب شديد، قبل موتهما غرقاً.
طالب مواطنون حانقون بإيقاع العقوبة المشدّدة على المجرم عديم الضمير، الذي توهّم أنه سوف يحسم الخلاف نهائياً بإزهاق أرواح الطفلَين البريئَين عوضاً من محاولة التفاهم مع والدتهما، التي لم تفعل أيّ شيء خارج حدود القانون، حين مارست، مثل أيّ مواطن، حقّها في التقدّم بشكوىً رسميةٍ تنصفها وصغارها.
على الأمّ المكلومة (والحال هذه) ألا تخضع لأيّ ضغوط من جهة عائلة المجرم أو محاميه، والتمسّك بحقّها في الادعاء بالحقّ الشخصي، كي ينال المجرم جزاءه العادل المتناسب مع وحشية جريمته النكراء.
الرحمة لإرواح الضحيتَين، المغدورتَين ممّن يفترض به رعايتهما وحمايتهما، ولتحلّ اللعنة وسوء المصير على المجرم عديم الرحمة، خائن العشرة والدم!