الثورة والدولة والخطاب الشعبوي في سورية

25 يناير 2025
+ الخط -

يقول قائد الإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، إن إعادة الإعمار تتطلّب "الانتقال من عقلية الثورة إلى عقلية بناء الدولة"، وإن "الثورة قد تزيل نظاماً ولكنّها لا تبني دولةً"، وليس بمقدور جماعةٍ من لون واحد، كانت فصيلاً مقاتلاً، أن تقوم بمهمة بناء الدولة السورية دون مشاركةٍ من الخبرات السورية في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية وغيرها. يُسَجَّل للإدارة الجديدة بقيادة هيئة تحرير الشام أنها أحسنت التصرّف خلال عملية التحرير وحفظت الدماء، خاصّة أن الجيش لم يقاتل فعلياً في معركةٍ خاسرةِ، ورغم حصول انتهاكاتٍ خلال عمليات البحث عن مطلوبين، إلا أنها لم تكن عملاً ممنهجاً، بل بالعكس، عملت الجماعة الطامحة إلى السلطة للحدّ من الانتقامات الطائفية خصوصاً. وبالمثل، يستجيب المجتمع السوري لهذا النهج، وهو بدوره لا يرغب في العودة إلى حمَّام الدم.

الحالة السورية هشَّة، إذ ينقسم المجتمع بين جمهور الثورة وجمهورٍ كان مؤيّداً لنظام الأسد، وهنا العامل الطائفي يزيدُ الطين بِلَّةً. حالة هشاشة ضمن القوى السياسية القديمة، وحالة اقتصادية ومعيشية يُرثَى لها، والانقسام الفصائلي، ووجود مناطق نفوذٍ متعدّدة وبتدخّلات خارجية... ما سبق كلّه يجعل السوريين يُعوِّلون (في هذه المرحلة) على الفصيل الأقوى في الساحة السورية الواصل إلى سُدَّة الحكم من أجل توحيد الأراضي السورية وحصر السلاح بيد الدولة وتحقيق الأمان. ورغم ذلك، توجد انتقاداتٌ كثيرة تتعلَّق بفشل الحُكّام الجدد في إدارة ملفّ المعتقلين وحماية المقابر الجماعية وملفّ العدالة الانتقالية، لأنه ملفٌّ شائكٌ، ويحتاج إلى مشاركة خبرات الاختصاصيين، والاطلاع على تجارب مماثلة في دول أخرى. وإلى كتابة هذه السطور، لا توجد شفافية في هذا الملفّ، وهذا يفتح على انتقامات فردية ومخاطر من حصول انتقامات طائفية.

الاستشهادَ بتجربة حكومة الإنقاذ في إدلب، وإمكانية سحبِها على الدولة السورية مع بعض التعديلات هو في غير محلّه

لا بياناتٍ رسمية بشأن العملية السياسية، والمرحلة الانتقالية، سوى كلامٍ فضفاض عن نيّة الحُكّام الجدد عقدَ مؤتمر وطني، وعن دستور وانتخابات بعد ثلاث أو أربع سنوات، مع إشارات إلى أن التمثيل الطائفي والعشائري والإثني سيكون حاضراً في مجمل ما سبق. هناك مبادرات من سياسيين ومثقّفين تخصُّ المرحلة الانتقالية، لم تدخل السلطة الحالية في نقاشها. هذا يدلّل على ارتباكها في ظلّ محاولاتها التوفيق بين الشروط الدولية والإقليمية والعربية لتقديم الدعم الأوّلي للحُكّام الجدد وللسوريين من جهة، وبثقل إرثها حركةً إسلاميةً سلفيةً جهاديةً، ووجود عناصر متشدّدة في رؤيتها إلى الدولة السورية، من جهة أخرى، وتجلّى ذلك في قرارات وزارة التربية تعديل المناهج، وفي تعطيل القضاء، وفي ترفيعات عناصر غير سورية في الجيش إلى رتب عُليا.

المؤكّد بالنسبة للحكام الجدد، على ما يقول الشرع ورئيس الحكومة ووزراؤها، تبنِّيهم اقتصادَ السوق الحرّ والخصخصة الواسعة. كان بشّار الأسد يحلُم برفع الدعم عن السلع الأساسية كالخبز والمازوت والبنزين، في ظلّ تبنّي حكومته منذ 2005 نمطاً اقتصادياً نيوليبرالياً، أودى بالزراعة وبصناعات وحرف كثيرة، وكان ذلك ضمن الأسباب العميقة لثورة 2011. تراجعُ شعبيته في السنوات الماضية جعله حذراً من اتخاذ خطوة رفع الدعم، خاصّة أن أكثر من 70% من السوريين تحت خطّ الفقر. اتَّخذت حكومةُ تسيير الأعمال (في اليوم الأول لتعيينها) قرارَ رفع الدعم، في ظلّ توقّف عجلة الاقتصاد وأزمة الطاقة ونقص السيولة، فضلاً عن مطلب تقديم مساعدات أوّلية وخدمية لتسهيل عودة النازحين إلى بيوتهم.

يبدو أن الحُكّام الجدد (وهم قادة عسكريون) لا يملكون حدّاً أدنى من الكفاءة فيما يتعلّق ببناء الدولة. تدلل على ذلك تصريحاتُهم غير المنضبطة

يبدو أن الحُكّام الجدد (وهم قادة عسكريون) لا يملكون حدّاً أدنى من الكفاءة فيما يتعلّق ببناء الدولة. تدلل على ذلك تصريحاتُهم غير المنضبطة، مثل القول إن نظام بشّار الأسد كان اشتراكياً، وقد قالها الشرع، ووزراء الاقتصاد والمالية والتجارة الداخلية وغيرهم في الحكومة. إن الاستشهادَ بتجربة حكومة الإنقاذ في إدلب، وإمكانية سحبِها على الدولة السورية مع بعض التعديلات هو في غير محلّه، إذ لم يكن هناك دولة في إدلب، فلا دعم للصناعة ولا الزراعة، ولا يوجد إنتاج ولا حركة تصدير إلى الخارج. وكانت إدلب، ومثلُها مناطق "درع الفرات" و"غصن الزيتون"، سوقاً للمنتجات التركية، بما فيها الخدمات الأساسية، مثل الكهرباء والوقود، وهذا يفرض كِلفاً عالية للمعيشة تصل إلى 500 دولار للعيش بالحدّ الأدنى، بينما يعيش السكّان على المساعدات الإنسانية، فينشط عملُ المنظّمات الإغاثية، إضافة إلى الحوالات التي يرسلها الأقارب إلى الداخل. يبدو أن وصفة إدلب هي خطّة الحكام الجدد حول اقتصاد الدولة، بتحرير كلّي للأسواق، وخصخصة كلّ شيء، حتى القطاعات الخدمية، وبدأ الحديث عن الكهرباء في هذا المنحى، وأن لا حاجة للخبرات والكوادر القديمة في الوزارات، طالما أن دور هذه الوزارات سيقتصر على جباية الضرائب. إن هذا النمط النيوليبرالي المتطرّف يعني أن دور الدولة سيقتصر على أجهزة الأمن والشرطة والجيش والجباية، وهو يعاكس فكرة إعادة بناء الدولة، وهذا يُفسِّر سبب تعطيل عمل معظم الوزارات (كانت على علَّاتها تؤدّي بعض الخدمات)، وتعميم فكرة أن مؤسّسات الدولة غير صالحة لأداء أيّ مهمّة، ويجب تقليص حجمها إلى الحدّ الأدنى، من دون الاستعانة بخبرات المختصِّين. يستشهد مؤيّدون للحكومة الجديدة بتحسّن سعر الصرف وانخفاض الأسعار بعد سقوط الأسد، رغم عدم توفّر السيولة في يد المواطنين، هذا الانخفاض سيكون مؤقّتاً، طالما أن عجلة الإنتاج متوقِّفة، وأن الاقتصاد يعتمد على الاستيراد فقط، لعجز الصناعة السورية عن المنافسة، خاصّة في ظلّ استمرار غياب حوامل الطاقة، أو توفّرها مستقبلاً بأسعار مرتفعة.

تتخبَّط حكومة اللون الواحد عبر قراراتها في تحديد دورها بين تسيير الأعمال خلال الأشهر الثلاثة الأولى، ونيَّتها التأسيس لشكل الحكم الذي تسيطر عبره على الدولة. حتى اللحظة، لم يتوجّه أحمد الشرع بخطابٍ إلى السوريين، ووسائل الإعلام الرسمية معطَّلة، ما عدا وكالة الأنباء الرسمية (سانا)، التي توردُ أنباءً مقتضبةً من نوع زياراتِ الوفود إلى دمشق أو لقاءاتِ الوزراء بفعّاليات اقتصادية، وزيارات إلى منشآت خدمية. في مقابل ذلك، يُخصِّصُ الشرع ساعاتٍ للقاء المؤثّرين في وسائل التواصل الاجتماعي، ويتحدّث إليهم بخطابٍ "أخوي" (دون المستوى السياسي) عن تحسُّن الأحوال، والعفو عن صغار المتورطين بالجرائم، ويترك لهؤلاء مهمَّة تعميم خطاب شعبوي يتعلّق بانتصار الثورة وتأييد مطلق للحكام الجدد، مستغلّين حالة النشوة الشعبية بعد سقوط الأسد. ولكنْ، لهذا الخطاب مدّة صلاحية تنتهي مع افتقار المواطنين إلى دور الدولة الخدمي، وحتى الأمني، في ظلِّ مخاوفَ من انعكاس تردّي الأوضاع المعيشية على الحالة الأمنية.