التيار الصدري والعراق الجديد

التيار الصدري والعراق الجديد

28 اغسطس 2022

أنصار لمقتدى الصدر بعد صلاة الجمعة في المنطقة الخضراء في بغداد (12/8/2022/فرانس برس)

+ الخط -

كان فوز التيار الصدري لافتاً في الانتخابات العراقية التي جرت في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، فقد تصدّر مقتدى الصدر المشهد ودعا إلى عراق جديد! وهو ما ظنّ أنه قادر عليه بوجود كتلة برلمانية قوية خلفه، لكن ما بدا تالياً أنّ النصر الصدري لم يكن كافياً للسيطرة التامة على السياسة، وذلك بسبب نفوذ التيارات الشيعية الأخرى الموالية لإيران وقدرتها على استخدام السلاح وأجهزة الدولة نفسها. تأرجحت عملية تشكيل الحكومة العراقية طويلاً، في ظل رفض مستمر للوائح الوزراء المقترحة، أو اعتراضٍ على شخص رئيسها، فشكّلت الأشهر العشرة الفاشلة ما يشبه العقدة لزعيم هذا التيار الصدري الذي قرّر الخروج من مشهد السياسة كله! ودعا أعضاء البرلمان الذين ينتمون إلى كتلته إلى الاستقالة، فقدّموا استقالاتهم فوراً... لم يقدّموها إلى رئيس البرلمان، بل إلى مقتدى نفسه، رغم أنّه لا يملك أيّ صفة رسمية، ولطالما حرص على إظهار نفسه في صورة رجل الدين العادي، لكن الأشهر المنصرمة سلطت ضوءاً سياسياً أظهره شخصيةً تمارس السياسة بعباءة رجل الدين.

من موقعه الديني، دعا الصدر أنصاره إلى الصلاة في قلب المنطقة الخضراء في العاصمة العراقية، ونجح الاستعراض الديني بشكل منقطع النظير، فقد لبّى الدعوة عشرات الآلاف، وتطوّعت عدة مئات منهم لاحتلال مبنى البرلمان القريب من ساحة الصلاة. وبهذه الحركة، لم يعد هناك فارق كبير بين رجل السياسة ورجل الدين، وهذه نظرية إيرانية خالصة عنوانها ولاية الفقيه، يمارسها الصدر رغم عدائه الصريح للوجود الإيراني في العراق.

تستند شعبية الصدر الجارفة إلى التجمّعات المكتظة، خصوصاً في مدينة الصدر التي بنيت في مطلع الستينيات على يد رئيس الوزراء الأسبق عبد الكريم قاسم، حيث نقل سكان منطقة حيّ الشاكرية القديم على جانب الكرخ إلى الجانب الشرقي للرصافة، وأسكنهم في أبنية شرعت في التوسّع عمودياً وأفقياً، فحمل أبناؤها حباً "شعبياً" لمن نقلهم من البؤس إلى حياة أفضل، وتعبيراً عن حبّهم لثورته سمّوا مكانهم الجديد حيّ الثورة. حافظ الحيّ على قيم ريفية واجه بها بغداد العصرية، فنشأت هناك حالة من التمرّد والعصيان على الأنظمة التي مرّت على العراق لاحقاً، لكن في عهد صدّام حسين تحوّل اسم الحي إلى مدينة صدام، وكأنها دمغة حاول بها صدّام وسم العراق كله. وحتى يزيل عن هذه المدينة شبهات التمرّد والمعارضة استَخدم أبناءها الذين تعود غالبية أصولهم إلى الجنوب الشيعي في حربه ضد إيران، واستخدمتهم مدينة بغداد خزّاناً بشرياً تأخذ منه ما تحتاج من عمالة ماهرة أو كسولة، لتتحوّل المنطقة فجأة بعد الغزو الأميركي إلى مدينة الصدر، تيمّناً بالزعيم الشيعي محمد صادق الصدر، والد مقتدى، الذي قتل في نهاية تسعينيات القرن الماضي، في انعطافةٍ شديدةٍ نحو المنبت الفكري المتدين الذي نشأ عليه الحيّ.

يبدو اليوم أنّ ما يستند إليه الصدر تيار نزق وسريع الغضب، ويتوقع نتائج سريعة، مع تمسّك فطري بالتدين، وإيمان عميق بقدرة بعض الأشخاص على صنع المعجزات، وهذه بيئة يتعايش معها زعيمها الصدر وتمدّه بما يحتاج من دعم احتلّ به ربع البرلمان، ويتطلّع إلى التخلص من خصومه، وعلى وجه الخصوص نوري المالكي، رجل إيران في العراق، وصاحب تجربةٍ لم تكن ناجحة في منصب رئيس الوزراء. ويظنّ الصدر أنّه، مع مجاميع مدينته، قادر على التغلب على المليشيات المسلحة التي تدعمها إيران، وإرساء قواعد لبناء عراق جديد، يكون فيه الرجل الأول ليس بوصفه سياسياً، بل رجل دين لا يمكن الاستغناء عن آرائه السياسية، وهو الدور نفسه الذي يلعبه علي خامنئي ومن قبله الخميني في إيران. وقد لا يكون الصدر راغباً بتدخلات إيرانية في العراق، لكنّه بالتأكيد معجبٌ بنظرية ولاية رجل الدين السياسية التي يمارسها من دون أن يتخلى عن عباءته أو مجلسه البسيط.