التوظيف بين المسألة التراثية والأسئلة والمساءلة
(أسعد عرابي)
يستكمل التوظيف الضلع الأخير للرباعية التراثية، بعد أن تناولت مقالات سابقة للكاتب في "العربي الجديد" التعريف والتوصيف والتصنيف، فيأتي ليتمم تلك الرباعية ليكون الثمرة المعرفية والمنهجية، الثقافية والفكرية. ولكننا، بحقّ، نستطيع أن نؤكّد أن التوظيف عمليةٌ بصيرةٌ لا يمكن أن تنجز إلا بفعل المساءلة، ومن هنا تأتي حقيقة معالجة مفهوم مساءلة التراث، الذي شاع في بعض الكتابات، وارتبط بالسؤال من ناحية، وبالمسألة التراثية من ناحية أخرى، ومستويات هذه المساءلة وعناصرها ضمن سداسية مشتقّة من فعل المساءلة (مسألة التراث، مسائل التراث، مسؤولية التراث، مساءلة المراجعة، ومساءلة المحاكمة، وأسئلة التراث)، ومساءلة التراث على مستوى التعريف والتوصيف والتصنيف والتوظيف، وكذلك على مستوى مساءلة التراث والقراءات المتعلّقة بها على تنوّعها واختلاف مواقفها التراثية. وعليه، ليست المسألة مساءلة للتراث وحده، ولكنّها مساءلة للحياة الثقافية والفكرية والعقلية والمعرفية، وللحالة الحضارية التي عليها هؤلاء الذين يمتّون بصلة لهذا التراث. وهو أمر قد يشير إلى منظومة الدواعي والدوافع التي تحرّك عناصر هذه المساءلة؛ الدواعي ومنظومة العقل التراثي الحضاري الواجب؛ والدواعي والدوافع للمساءلة؛ والداعي التجديدي والإصلاحي؛ والداعي الإحيائي؛ والداعي المتعلّق بالمراجعة وممارسة النقد الذاتي؛ والداعي المتعلّق ببناء رؤية إستراتيجية للتراث؛ والداعي المتعلّق بالحفاظ على الهُويَّة والذاكرة الحضارية (الوعي التراثي، مكانة التراث)؛ والداعي المعرفي والبحث المنهجي؛ والداعي المتعلّق بالظاهرة والمسألة التراثية؛ والداعي المتعلّق بترشيد الحالة الاتهامية (المحاكمة)؛ والداعي المتعلّق برفع الالتباس التراثي والحالة الإسقاطية (تحميل التراث).
الإستراتيجية التراثية تستأهل منّا أن نفكّر تفكيراً استراتيجياً حضارياً، يتعرّف إلى المسألة التراثية بكلّ مكوّناتها: المحتوى والقارئ، والمتلّقي
إنها مساءلة اتّسع نطاقها، لأن الأمر وفق هذه الرؤية يتأسّس على أن الإستراتيجية التراثية تستأهل منّا أن نفكّر تفكيراً استراتيجياً حضارياً، يتعرّف إلى المسألة التراثية بكلّ مكوّناتها: المحتوى والقارئ، والمتلّقي، وبالظاهرة التراثية بكلّ مقوماتها وتفاعلاتها، فالظاهرة التراثية من أهم الظواهر المعقّدة، وهو أمر لا نظنّ أن التوجّهات العلمية في حداثتها في مقام نظرية المعرفة ونظريات العلم قد تجاهلته، بل بدت تلامسه ولو بالمسّ الخفيف في إطار أعمال معرفية لنقد ما يُسمّى بالعقل المعتاد، والعقل الأعمى، وظهور المداخل إلى الفكر المركّب، من خلال كشف العناصر الفارقة والمداخل الكاشفة. ها هو إدغار موران، العالم متعدّد الاهتمامات والمهتمّ بحقائق الإبستمولوجيا (عدنا له أكثر من مرّة)، يحيلنا، ويطرق أسماعنا، بضرورة مراجعة "النظر المعتاد"، الذي صار الباحث أسيراً له. هذا الأسر المعرفي والمنهجي دفع (ومن أقصر طريق) إلى "هيمنة منظومة التبسيط أنطولوجياً ومنطقياً وإبستمولوجياً وأنثربولوجياً واجتماعياً وسياسياً. تأسّست هذه المنظومة على كيانات مغلقة مثل الماهية والسببية الخطّية والصلبة والذات والموضوع"، ومنهجياً قامت هذه المنظومة على منهجية علمية "اختزالية" و"كمّية".
إننا هنا أمام معانٍ تتحكّم بها الألفاظ والكلمات المستخدمة، فالظواهر تعلّقت بدراسة الظاهر المتراتب، المتكرّر، المطرد، الثابت، المستقر، المستمر، وأغفلت هذه الرؤية حقيقةً كلّيةً: الظاهر حينما يبين ويؤثِّر في الظواهر، والظاهر حينما يستر أهم العناصر الكائنة والكامنة في قلب الظواهر. وتهمل هذه الخطّة أن المعاصرة قد تشكّل حجاباً على الرؤية، والعادة قد تطمسها، والأعراف السائدة قد تخفيها كما تخفينا من مبادرات منهجية. شبكة التراث وعناصرها إشكالاتها خير نموذج لما أشير إليه من مأزق منهجي وحرج بحثي. تبدو أسئلة التراث، وما يتعلّق بها من إشكاليات الهُويَّة وغيرها، بسيطة في ألفاظها، وفي تركيباتها اللغوية، ولكنّها لا تزال في حاجة إلى دراسات متأنّية فاحصة لا تتوقّف عند شطآن الظاهرة بأساليب منهاجية معتادة، بل هي في حاجة إلى الغوص للحصول على لآلئ صغيرة في حجمها، منفردة في حدوثها، ولكنّها عالية في قيمتها. إن هذه الأسئلة البسيطة ما زالت في حاجة لأن يُتلمّس بصددها إجابات معقدة.
المساءلة ليست اتهاماً أو محاكمة، ولا إسقاطاً من الحاضر على الماضي، بل قراءة بصيرة تستثمر التراث ولا تهدره
يقدّم مفهوم المساءلة عملاً مركّباً لا حالة مختزلة، فيجعلها شاملةً إلى حدّ بعيد، ومتكاملة. فأولاً، المساءلة سؤال وأسئلة، مسائل ومناهج، مسؤولية والتزام، قراءة ومراجعة بصيرة، وليست اتهاما أو محاكمة، والمساءلة ليست إسقاطاً من الحاضر على الماضي، أو من الماضي على الحاضر، فإن ذلك خروجٌ على حدّ المنهج والمنهاجية، ولكن الأمر في نطاق العبرة والاستفادة يجب أن يتمثّل قراءة الاستثمار لا الإهدار. وثانياً، المساءلة هي النظر إلى التراث باعتباره أوّل مداخل بناء الرؤية الإستراتيجية للحفاظ على الذاكرة، والتمكين للهُويَّة، والإحياء، والنهوض. في مسألة الحضارة (هكذا يجب النظر إلى مسألة التراث والتساؤل حوله) باعتبار العملية التراثية أطرافاً وتفاعلاتٍ وعلاقاتٍ، وأصولاً وأسساً ومتغيّراتٍ، ماضياً وحاضراً ومآلاتٍ ضمن رؤية مستقبلية استشرافية، كلّية وحضارية.
من خلال هذه الرؤية المهمة، نزكّي امتداد مساحات السعة الدلالية لمفهوم المساءلة، ونجد لكلّ واحدٍ من مستوياتها مساحةً من الشرعية في الطرح المتكامل فيما بينها، والجدل فيما حولها، خصوصاً أن المساءلة التراثية مسألة علمية منهجية، بحثية وجدّية، وهي التي تفرز الموقف والانطلاق إلى عمليات التوظيف والاستثمار، الموقف في كمالاته وحتى جزئياته، لا بدّ أن يتحرّك على قاعدة من أصل الهُويَّة، على فهم بصير وقدير لها، مفاده السؤال المحوري: على أيّ أرض نقف؟
وضمن متوالية أسئلة مهمّة لا تراعي، صياغة السؤال الصحيح فقط، بل ترتيبه، وهي أمور ستحقّق كلّ العناصر التي تشكّل موقف الحكمة النافي لكلّ حالات التعامل التراثي بالفسخ أو المسخ أو النسخ، فخريطة الأسئلة على تنوّعها مسكونة بالتراث بشكل مباشر أو غير مباشر، إذ سنجد التراث حاضراً بقوة التأثير والفعل، أو بالهاجس الملحّ، الذي لا يمكن تجاوزه أو التغافل والتغاضي عنه أو القفز عنه. هذه الأسئلة المسكونة بالتراث يجب أن تتحرّك صوب الأسئلة العامرة: عمارة التراث، وعمارة الأكوان، وعمارة الإنسان، في الجمع بين قراءات متعدّدة ومسالك متنوّعة، قراءات تستلزم المنهج وتستصحبه، فـ "تعدّد المسالك راحة للسالك"، كما تقول المتصوّفة في بعض قواعدها.
أسئلة التراث البسيطة تحتاج إلى إجابات معقّدة، تُستخرج بالغوص لا الاكتفاء بالسطح الظواهر
لماذا كما ذكر آنفاً لا يكون التراث هو ذلك الأمر الذي يحلّ سهلاً ميسّراً مرحباً به، لا مرهقاً يجعل من أمرنا رهقاً، يحل على هذه الأسئلة، فيحلّ عقدتها "حلول الحلّ" لا "حلول التعقيد والتأزيم"؟... إن إكرام التراث، إن حلّ علينا، هو جزء من تحمّل إقامته وكرم وفادته، وإن حال التراث في دراسته ومدارسته ومساءلته، قد يكون طريق التراث إلينا مرّ بباب الأفكار المنتقمة، لأننا اتخذناه من باب الأفكار المخذولة المتروكة المغبونة. إن التخيّر الاصطفائى لا بدّ أن يختار فيه ومنه، بين الفِكَر الميّتة والحيّة، والفِكَر الجامدة الخامدة الخاملة والمتفاعلة الفاعلة، والفِكَر التي تؤدّي إلى حراسة التخلّف، لا الدافعة إلى الحركة والنهوض، والفِكَر الرافعة لحركة التقدّم الإنساني لا الفِكَر الهابطة به إلى أسفل سافلين "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ.
ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ. فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ. أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ" (سورة التين: 4-8)، بلى وأنا على ذلك لمن الشاهدين.
تصفّح الأسئلة على تعدّدها وتنوّعها، وعلى إضافتها، ستجدها مسكونةً بالتراث، شئنا أم أبينا، قدرةً للتعامل مع الواقع والعصر سواء بسواء. هذا التصفّح، وهذه القراءة، هما من جملة فعل القراءة الحضارية للإنسان الذي طغى واستغنى عن العالمين، فتأثّر واغتنى، لا الإنسان الذي استغنى بخلق الله فأخذ وأعطى "قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى" (سورة طه: 126). إن روح تلك الآيات، لا معانيها المباشرة، هي المقصودة في التخيّر الاصطفائي الراشد، الناقد والباني؛ ضمن العقلية المقوّمة والثقافة البانية.