التهديدات التركية وفراغ الوطنية السورية

التهديدات التركية وفراغ الوطنية السورية

19 يونيو 2022
+ الخط -

تقع التهديدات التركية التي تتردّد منذ أكثر من شهر، بشن هجوم على شمال سورية، يستهدف بلدتي منبج وتل رفعت، على آذان سورية تقطّع رابطها الوطني. شهدنا ذلك من قبل في عمليات، درع الفرات (2016) ثم غصن الزيتون (2018) ثم نبع السلام (2019)، وكذلك في مجمل التدخلات الخارجية الأخرى، الروسية والإيرانية والأميركية والإسرائيلية. القول إن "الطغاة شرط الغزاة" صحيح، ولكن حالنا في سورية وصل إلى ما هو أسوأ.

نتكلم الآن عن التهديدات التركية التي ذاعت أخيرا لأنها مستجدّة، ولأنها نموذجية للتأمل وكشف اعتلال الوطنية السورية، الاعتلال الذي شكل ويشكل الطغيان الداخلي نواته المولّدة. ولا يغيب عن بالنا أنه اعتلال ليس جديداً، وأن عوامله تعود إلى سياق طويل اشتغلت فيه إيديولوجيات كثيرة، غابت عنها إيديولوجيا تقصُر نفسها على سورية وترى فيها "وطناً". أي إن الإيديولوجيات التي حكمت النشاط السياسي السوري كان لها دائماً خارجٌ ما تبدّيه على الداخل وتنسب الداخل إليه، وكل منها تستبعد جزءاً من الداخل، فالأممي يستبعد الطبقات الرجعية، والعربي يستبعد غير العرب، والإسلامي يستبعد غير المسلمين السنّة، والكردستاني يستبعد غير الكرد. والمفارقة أنه قد تكون نخبة الاستبداد الحاكمة في سورية، وبشكل خاص بعد 1970، أكثر من تعامل مع البلد (في الواقع لا في الإيديولوجيا السياسية) على أنه نهائي، ليس فقط من منطلق إنه "ملكيتها الخاصة" المتاحة، بل أيضاً من أجل التوافق والتلاؤم مع القوانين والشرعية الدولية، ولكنها أمعنت في استبعاد كل من هم خارج دائرة أهل النظام، حتى تفجّرت سورية على الحال الذي شهدناه.

اليوم، كل فئة سياسية سورية تبحث في الهجوم التركي المحتمل، من موقعها الخاص، بما في ذلك الفئة التي تحتل الدولة السورية، وتحوز تمثيلها الرسمي في الأمم المتحدة. ليس للوطنية السورية أولوية في هذه المواقع الخاصة. نقصد الشعور العام أو العصبية العامة التي تشدّ أهل بلد معين إلى بعضهم بعضا حيال التهديدات الخارجية بشكل يجمّد الصراعات البينية الداخلية أو يخفّفها، ويعطي الأولوية لمواجهة التدخل الخارجي. أو يمكن تعريف الوطنية التي نقصدها هنا بأنها تفوّق ما يربط أبناء بلد معين فيما بينهم، على ما يربطهم مع أي طرفٍ خارجي. لا يحتاج المرء إلى انتباه شديد، كي يلاحظ تهتّك هذه العمومية السورية لصالح خصوصياتٍ تشترك في طلب الحماية الخارجية، وفي التعادي، وفي ضعف اعتبار الوطنية السورية، كما حدّدناها.

لصدّ الهجوم التركي المحتمل تُبدي قوات سوريا الديمقراطية الاستعداد للتنسيق مع قوات نظام الأسد ضمن حدودٍ لا تجعل "الإدارة الذاتية" تخسر سيطرتها على الأرض ومكاسبها

ما يبرّر الكلام عن اعتلال الوطنية السورية أو تقطعها أن المواقع الخاصة التي يجري الانطلاق منها في النظر إلى الشأن السوري العام لم تعد مواقع سياسية، أي لم تعد مجرّد مواقف حزبية ونخبوية، بل تطاول العمق الشعبي، أي إن اعتلال الوطنية السورية بات أعمق من كونه مشكلة بين أحزاب، ونخب بعد أن نجحت هذه الأخيرة، في غمرة الصراع العنيف، في تعميق الانقسام السياسي إلى حدودٍ شبه هوياتية تصنّف الكتل الشعبية، وليس فقط الأحزاب والتوجهات السياسية، وتزرع التعادي على مستوى عميق بين السوريين.

رأينا في أوكرانيا نمواً في الشعور الوطني الأوكراني في مواجهة الغزو الروسي، بالرغم من وجود روابط تاريخية جمعت الشعبين والبلدين، وصلت إلى حد تسمية أوكرانيا "روسيا الصغرى"، حتى أن محللين اعتبروا أن الحرب التي شنتها روسيا على أوكرانيا لمنعها من مغادرة روسيا إلى الغرب هي أشبه بجريمة الشرف، ومعروفٌ أن من يرتكب هذا النوع من الجرائم هو الأقرب إلى الضحية. وعلى الرغم من هذا القرب، نهض الشعور الوطني الأوكراني على وقع الغزو الروسي، حتى بات يقال إن الرئيس فلاديمير بوتين هو أبو الوطنية الأوكرانية.

على خلاف ذلك، كان الشعور الوطني السوري غائباً حيال السيطرة التركية المتزايدة على شمال سورية. كما كان غائباً حيال كل التدخلات الخارجية التي وجدت لها دائماً بين السوريين من يحتضنها ويحتمي بها ويفاخر بها أيضاً. لا حاجة للتأكيد على أن ذلك كان دائماً فعل نخبٍ سياسيةٍ يدفعها مرضٌ إلى الاستنجاد بمرضٍ آخر علّه يشفيه. وقد باتت مرجعية النقد بين السوريين هي المفاضلة بين المتدخلين الأجانب، في غياب مرجعيةٍ سوريةٍ مستقلة. وقد أخلى الشعور الوطني مكانه في دخيلة السوريين لشعور آخر معاكس، هو شعور الاحتماء والصغار أمام الأجنبي، والإعلاء من شأن الطرف الأجنبي الحامي، وهو شعورٌ مترافق في الشدّة مع شعور العداء والاستنكار فيما بين السوريين. ينطبق هذا على الكتل السياسية الرئيسية التي تتوازع الشعب السوري اليوم.

كان الشعور الوطني السوري غائباً حيال السيطرة التركية المتزايدة على شمال سورية

لا تتكامل المواقع الخاصة التي يتم النظر منها إلى التهديدات التركية ولا تنتظم، كما هو واضح، في منظور وطني سوري مشترك، له الأولوية والتفوق على مصالح الكيانات شبه الدولتية التي نشأت واستقرّت على أرضية تحطّم الثورة وتفكّك عناصرها، لكنها (هذه المواقع الخاصة) تتكامل في منع بروز مسار وطني يوحد السوريين وطنياً، ويحتوي تبايناتهم السياسية ويحميها في الوقت نفسه.

لصدّ الهجوم التركي المحتمل تُبدي قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الاستعداد للتنسيق مع قوات نظام الأسد ضمن حدودٍ لا تجعل "الإدارة الذاتية" تخسر سيطرتها على الأرض ومكاسبها، ومردّ هذا الاشتراط عجز نظام الأسد عن قبول أي مستوىً من الحقوق السياسية للكرد في سورية. من ناحية أخرى، تجد تركيا في فصائل عسكرية سورية تابعة لها، وفي ملايين السوريين الواقعين تحت سيطرتها، داعماً لعملية عسكرية تركية تبعد "قسد" عن مدينتي منبج وتل رفعت، وتسمح بعودة عشرات آلاف المهجّرين منهما، بسبب سيطرة "قسد" كما تذكر التقارير. ومعروف أن ملايين السوريين فضّلوا ترك بيوتهم ومناطقهم، واللجوء إلى شمال سورية تحت سيطرة وحماية تركيتين، على أن يبقوا تحت سيطرة نظام الأسد الذي يصل به إنكار الواقع إلى حد الكلام عن مقاومةٍ شعبيةٍ ضد تركيا.

بعد كل هذا التعادي الذي أسّس له ونمّاه إصرار نظام الأسد على إنكار حقوق الناس وارتداده الوحشي ضد المطالبين بها، التعادي الذي تعمّق حتى أتى على الرابطة الوطنية السورية، نكتفي بوصف هذه الحال، للتساؤل هل توجد بعد نواة داخلية تلتئم حولها مشاعر وطنيةٌ سوريةٌ تضمّ الجميع، أم أن الحال بات يتطلب قوة خارجية بمرجعية أممية، تكسر تعادي الأطراف الداخلية في سورية، وتفرض على السوريين قبول الحقوق المتبادلة في إطار دولةٍ وطنيةٍ تنطوي على آلية لصيانة حقوق الأفراد والمجموعات، وعلى آلية مناسبة لإنتاج الشرعية السياسية.

F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.