التنازع على النظام الانتخابي الليبي

التنازع على النظام الانتخابي الليبي

01 أكتوبر 2021

تظاهرة في طرابلس تندد بمجلس النواب الليبي لسحبه الثقة من الحكومة (24/9/2021/الأناضول)

+ الخط -

في ظل تزايد الجدل بشأن الانتخابات الليبية، المتوقعة في ديسمبر/ كانون الأول المقبل، تبدو أهمية مناقشة القوانين الانتخابية ومشروعاتها، حيث يُنظر إليها محدّداً رئيسياً لتشكيل النخبة السياسية المقبلة. وفي هذا السياق، تبدو أهمية الاقتراب من تكافؤ الفرص للمرشّحين والناخبين، باعتبار هذا الأمر معيارا للتنافسية، وكفاءة النظام الانتخابي في التعبير عن الإرادة الشعبية، بالإضافة إلى التَعرّف على اتجاهات تفكير صائغي التشريعات. ولعل النقطة المهمة تتعلق بإمكانية الاستقرار السياسي، إذا ما ما ظلت الأفكار الحالية تُشكل خلفية التشريعات الانتخابية.

بدأ مجلس النواب الليبي، في بداية يوليو/ تموز الماضي، في إعداد قانون الانتخابات الرئاسية، امتدادا للقرار رقم 5، 15 أغسطس/ آب 2014، حيث ينصّ على انتخاب رئيس الدولة المؤقت بالأغلبية المطلقة، والمستندة لمخرجات التعديل الدستوري السابع، مقترحات لجنة فبراير. والملاحظ هنا أن هذه نصوص قانونية سابقة على الاتفاق السياسي (الصخيرات 2015)، ولذلك يعتبرها المجلس من اختصاصاته الأصيلة. وقد تعزّز هذا المنظور في اجتماعات روما، في 26 يوليو/ تموز الماضي، بحضور المفوضية الوطنية للانتخابات وممثلين عن مجلس النواب ومجلس الدولة، وفيه خاطب رئيس البرلمان، عقيلة صالح، الأوروبيين بأن تأجيل الانتخابات سوف يُعيد ليبيا إلى الأزمة في 2011 ومنها احتمالات تقسيم البلاد. وبهذا المعنى، يحاول صالح الحصول على مساندة الأوروبيين في المضي إلى صياغة التشريعات الانتخابية، وعدم انتظار تعليقات الأطراف الليبية الأخرى. وذلك على الرغم من غموض إجراءات التصويت، ما يشكل عيباً قانونياً، وخصوصاً بإصداره في ، 8 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) بدون عرضه للتصويت.

واجه قانون الانتخابات الرئاسية خلافاً من جانبين؛ طريقة صدوره بدون التشاور مع المجلس الأعلى للدولة ومشكلة توفر النصاب القانوني

ومع صدوره، واجه قانون الانتخابات الرئاسية خلافاً من جانبين؛ طريقة صدوره بدون التشاور مع المجلس الأعلى للدولة ومشكلة توفر النصاب القانوني. وبعد صدوره، نشب نزاع بين المجلسين على الجوانب الشكلية ومحتوى عدد من المواد. وقد اعتبر مجلس الدولة، 9 سبتمبر/ أيلول، قانونَ انتخاب الرئيس معيباً لمخالفته الاتفاق السياسي، ودعا المحكمة العليا إلى التدخل لمنع المخالفات الدستورية، منبّها مفوضية الانتخابات إلى عدم التعامل مع قانونٍ لا تكتمل شروط إصداره.

من حيث المحتوى، لم يختلف المجلسان في التعامل مع ازدواج الجنسية، واقتصر مشروعهما على عدم وجود جنسية أخرى، من دون تحديد مدة للتنازل عنها، وهو ما يمثل تسهيلات للترشح، بعد أن كانت هناك مطالباتٌ تسعى إلى حرمان من حمل جنسية أخرى. فيما اختلفا في مسألتين، الأولى مرتبطة بشروط الترشح، حيث يمثل ترشح العسكريين جوهر الخلاف بين المجلسين وعدد من المكونات السياسية. وقدم كل من المجلسين صيغته في هذه الجزئية، وحسب المادة 10 فقرة 6 من مشروع مجلس الدولة، اشترط مضي عامين على الخروج من الخدمة العسكرية، فيما حدّدها بثلاثة أشهر للموظف العام، وهي صيغة جاءت ضمن الشروط العامة للترشّح، وذلك على خلاف قانون مجلس النواب، حيث ساوى بين المرشحين، ووضعها في مادة مستقلة (م 12) ما يمنحها قوة قانونية، واكتفى فيها بخروجه من الخدمة قبل الانتخابات بثلاثة أشهر لغرض الترشح للانتخابات، واحتفاظه بحق استعادة منصبه.

ليس ثمّة خلاف بين المجلسين (الدولة والنواب) على انتخاب رئيس الدولة بالأغلبية المطلقة

وثمة خلاف جوهري أخر بين المجلسين، يتعلق بسلطة تحديد يوم الاقتراع، فحسب الاختصاصات القانونية، تتمتع المفوضية الوطنية بالإشراف على العملية الانتخابية وترتيب إجراءاتها. يتوافق مشروع مجلس الدولة (المادة 29) مع الوضع القانوني للمفوضية، حيث اعتبرها الجهة المسؤولة عن تحديد يوم الاقتراع، فيما اختصّ مجلس النواب نفسه (المادة 31) بتحديد يوم الاقتراع، بناء على اقتراح المفوضية الوطنية، وهو ما يحدّ من اختصاصات المفوضية، حيث يمكنه تعليق مقترحها، ما يزيد من احتمالية تغيير الجدول العام لمراحل العملية الانتخابية.

ليس ثمّة خلاف بين المجلسين على انتخاب رئيس الدولة بالأغلبية المطلقة، غير أنه في الانتخابات التشريعية، قامت الخبرة الليبية على قاعدتي الأغلبية النسبية والصوت الواحد غير المتحول، وقد سار مشروع مجلس الدولة على هذه القاعدة، حيث اتّجه مجلس الدولة في مشروع انتخاب الجهة التشريعية، مجلس الأمة ومجلس الشيوخ، لاعتماد نظام الأغلبية النسبية، فيكون انتخاب النواب بالأكثرية النسبية، المادة 1 الفقرتان 29 و30، كما وضعت المادتان 8 و9 من مشروع مجلس الدولة الحد الأدنى لفوز المرشح بالمقعد 3%، وهو ما يحمل، في طياته، احتمالية هدر 97% من الأصوات الصحيحة، كما أن تبنّي الصوت الواحد غير المتحوّل لا يلائم البيئة الليبية، حيث يحتاج لنظام حزبي مستقر، وفي الوقت ذاته، يحرم الناخب من اختيار ممثليه في الدوائر متعدّدة المقاعد، ما يتضمّن طريقة أخرى لإهدار الأصوات.

يمكن تفسير التمسّك بنظام الأكثرية النسبية بأنه يخدم النخبة القائمة في السلطة، حيث تتزايد فرصها في الحصول على المركز الأول والحصول على المقعد وبأقل نسبة ممكنة

وتفيد الخبرات السابقة بأن نتائج الانتخابات السابقة كشفت عن تفاوت معدّل التصويت للمرشحين الفائزين، ما يشير بشكل عام، إلى انخفاض المتوسط العام للفائزين بمقاعد في مجلس النواب. ففي دائرة مصراتة، بلغ ما حصل عليه الفائزون السبعة 55.02% من إجمالي عدد الأصوات. وفي دائرة ترهونة، كانت نسبة من حصلوا على المقاعد الثلاثة 25.62%، وهي تتوافق مع المتوسط العام لدوائر فرعية عديدة، وخصوصاً في دوائر طرابلس، فقد تراوحت نسب الفائزين الآخرين بين 24% و4%. ويوضح التحليل الإحصائي للنتائج انخفاض مستوى تمثيل المؤسسات المنتخبة إلى متوسط 10% من الناخبين، وهي نسب متدنية، جعلت الإرادة الشعبية غير ممثلة في البرلمان بمتوسط 90%، وتسببت لاحقاً في ضعف الثقة في النظام الانتخابي، وعدم قدرته على احتواء التوتر، ما أدّى إلى تداعي المؤسسات الانتقالية، ووضعها تحت ضغط العوامل الخارجية، حيث شكّلت الحرب الأهلية واحداً من الحلول السياسية. وتشير تلك التجارب إلى مدى إطاحة الإرادة الشعبية، وذلك على عكس وظيفة النظم الانتخابية في تجميع الإرادة الشعبية.

تضع الصيغ المقترحة الناخب الليبي أمام حالةٍ من تعدّد نظم التصويت، وما يمكن تسميته ازدواج النظام الانتخابي، حيث يكون الناخب أمام ثلاثة أشكال: الأغلبية المطلقة، الصوت الواحد، الأكثرية النسبية، وهي تظهر في بيئة تغيب عنها المنظمات الوسيطة، ما يرجح تكوين مؤسسات غير متجانسة، والانحراف بنتائج الانتخابات أو تشتتها، كما حدث في حالات المؤتمر الوطني ومجلس النواب والهيئة التأسيسية لمشروع الدستور.

ترجع الأزمة القانونية إلى تجنّب مجلس النواب إدراج الاتفاق السياسي وخطة المرحلة التمهيدية باعتبارها تعديلا دستوريا

ويمكن تفسير التمسّك بنظام الأكثرية النسبية بأنه يخدم النخبة القائمة في السلطة، حيث تتزايد فرصها في الحصول على المركز الأول والحصول على المقعد وبأقل نسبة ممكنة، ما يمكن اعتباره نمطاً سخيفاً من النظم الانتخابية، وهو يتقارب مع إصرار ما تضمّنه قانون مجلس النواب من الاختصاص بتحديد يوم الاقتراع، ليتمتع رئيسه بميزة إضافية، تتمثل في الترشّح والإمساك بجزءٍ من الإشراف على الانتخابات.

وفي الجدل بشأن تنازع الصلاحيات بين المجلسين، النواب والدولة، حسب الاتفاق السياسي، يمكن تفسير الدور الاستشاري لمجلس الدولة باعتباره نوعا من الاستئناس بالرأي، وليس حق اعتراض على القوانين الصادرة. وتذهب الآراء القائمة على اعتباره شرطاً ضرورياً للقياس على الحالة العادية في النظم المستقرّة، فالتوافق المُشار إليه في الاتفاق السياسي يقتصر على عرض مشروعات القوانين، وإبداء الرأي فيها، وترك إصدارها لمجلس النواب. ومن الناحية الفعلية، ترتبط الصلاحية الاستشارية لمجلس الدولة بإرادة مجلس النواب، فليس هناك ما ينظم حق الاعتراض أو التداول بين المجلسين. وبالتالي، تتأثر الصيغة النهائية بالتوافقات، وليس بالحق القانوني أو السلطة الاستشارية.

ويرجع تهميش دور مجلس الدولة في التشريعات لسببين: وجود المجلس هو بمثابة ترضية سياسية للخروج من أزمة انقسام الحكومات وإقرار الاتفاق السياسي. عدم اعتراف مجلس النواب باتفاق الصخيرات، وهو ما تترتب عليه أوضاع معاكسة تضع مجلس الدولة جهةً هامشيةً في صنع القانون. ولذلك تبدو أهمية توفير مناخ ملائم للتداول حول التشريعات يضمن التوافق على القاسم المشترك لأجل الاستقرار السياسي.

نتائج الانتخابات السابقة كشفت عن تفاوت معدل التصويت للمرشحين الفائزين، ما يشير إلى انخفاض المتوسط العام للفائزين

وبالإضافة إلى ذلك، ترجع الأزمة القانونية إلى تجنّب مجلس النواب إدراج الاتفاق السياسي وخطة المرحلة التمهيدية باعتبارها تعديلا دستوريا. ولهذا، يتصرّف بوصفه سلطة دستورية وحيدة، وهو ما يجعل عقيلة صالح يتصرّف بدون الرجوع إلى مجلس الدولة، كما تجعل اللواء خليفة حفتر غير معترف بالمجلس الرئاسي. ويمكن ملاحظة أن شروعهما في إجراءات الترشح، من دون انتظار للوقوف على الصيغة النهائية لقانون الانتخابات، يعكس نوعاً من الاستراتيجية الهجومية لتحقيق أفضل مكاسب ممكنة.

على أية حال، وباعتبار أن تقييم النظام الانتخابي يقوم على مؤشّر القدرة على تجديد النخبة السياسية، وتكافؤ الفرص للمرشحين والناخبين، تبدو القوانين المقترحة عاملاً أساسياً في تجميد النظام السياسي وإبقائه متداولاً فيما بين مجموعاتٍ تتعايش مع الانقسامات، فهي إما متحيّزة لصالح المجموعات القائمة في السلطة، أو تعمل على تضييق فرص الاختيار أمام الناخبين.

وفي سياق نتائج الانتخابات السابقة، تتراكم القوة والنفوذ السياسي خارج المجلسين. ومن ثم، سوف يكون ما يتعلق بالصيغ النهائية استجابة للضغوط الآتية من المجتمع السياسي الليبي والمجلس الرئاسي، بجانب تطلعات بعض الحكومات إلى الوصول إلى الانتخابات. ووفق هذا السياق، تتزايد توقعات إجراء تعديلات على قوانين الانتخابات، تلبّي الحد المناسب من التعبير عن الإرادة الشعبية وبناء التجانس في النظام الانتخابي، مدخلا إلى تجنب الاستمرار في الأزمة السياسية والوضع الانتقالي.

5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .