Skip to main content
التمرّد على الأكاديمية الغربية بين حلاق وسعيد
مهنا الحبيل
وائل حلاق وإدوارد سعيد

تحتاج مجموعة مظاهر الأزمة التي خُلقت من المشروع الحداثي، ونظمه المعرفية، إلى دفتر كامل لسردها تشمل التدمير البيئي، والإمبريالية الشاملة التي تنفي إنسانية البشر، وتأسيس كيانات سياسية قاتلة، وتسميم الغذاء ومصادر الماء، والقضاء على كائنات حيّة، والتفكّك الاجتماعي والمجتمعي، وزيادة الفردية السيادية النرجسية، والأمراض النفسية المرتبطة بالزيادة الوبائية لحالات الانتحار.. وغيرها الكثير .. (وائل حلّاق)
يقف وائل حلاق، قبل هذا التذكير، على موقع إدوارد سعيد داخل الفلسفة الأخلاقية الغربية نفسها، وتبدو صورة الإدانة الموثقة من كتب سعيد صادمة، فحلاق هنا يشير إلى تباين فلسفي أخلاقي عن سعيد الذي اتكأ كثيراً على ميشيل فوكو، ويُقارن وينقل عن باحثين من نقاد سعيد، للعمق الإنسانوي العلمانوي في روح سعيد، ورحلته البحثية، حيث إنه، على خلاف شيلر، وفوكو، أستاذ سعيد المقدّم، وإشارة فوكو، وشيلر، واعترافهما بقدرة الدين على فهم العالم، كما (للعلمانية الإنسانية) في فهم العالم، فإن سعيداً ينبذ التراث والدين تماماً. وهذا المفصل غاية في الأهمية في رحلة الجدل بين حلاق وسعيد، وهناك تعقباتٌ مهمة على إدانة حلاق لا تقلل حقيقة أزمة سعيد الكبيرة في ضعف أرشيفه، وتمكُّن الفكرة النمطية عن الشرق التي صنعتها الحداثة في وجدانه الفلسفي. فيما كان تمرّده الأخلاقي والعلمي على الأكاديمية الغربية أحد أكبر انعطافات الدراسات النقدية الفلسفية الحديثة التي وثقت المشروع الاستعماري بالاستشراق، ثم عجز سعيد أو تجاهل العبور إلى الأصل الفلسفي الذي اتكأ عليه الاستشراق، الذي ظل فاعلاً في كل صناعة الحداثة المادية بعد ذلك.

كان تمرّد سعيد الأخلاقي والعلمي على الأكاديمية الغربية أحد أكبر انعطافات الدراسات النقدية الفلسفية الحديثة التي وثقت المشروع الاستعماري بالاستشراق

يشير حلاق هنا إلى تبنّي سعيد عقيدة فوكو (الإنسان صانع طريقه ومصيره، من خلال المقاومة والنقد، ومن خلال السعي والكد). لم يتعرّض هذا المبدأ لفوكو لنقد تشريحي، ولا لتفكيك مآلات ما بعده التي سطّرها بحسب تاريخ الجنسانية، ثم تطبيقاته التجريبية على حياته الشخصية، ثم موته قبل أن تكون هناك فرصة لفوكو ذاته لمراجعة هذا المصير، فهل يمكن أن نفهمه في سياق مبدئه النقدي، أم في سياق تصحيح هذا المبدأ، وفقاً لقواعد المعرفة الأخلاقية المستقلة؟ أستبعد أن يكون إدوارد سعيد قد جهل موقع ذلك التطرّف الذي انتهى إليه فوكو في تاريخ الجنسانية، ومن ثم ظل تناول سعيد فوكو يقارب هذه الزاوية التي تتفق برفض الدين والتراث، وأي قيم معرفية أو أخلاقية تناولها شيلر وغيره. وفي الوقت نفسه كانت مسيرته الأكاديمية تواصل في التخصص نفسه من عمق نظرية فوكو برفض القوة التي فرضتها الإمبريالية الغربية، ومن ثم نأى سعيد بنفسه، إن صحّ هذا التعقب، عن تطرّف فوكو الجنساني الذي يُشكّل اليوم إحدى أهم أزمات زرعتها الحداثة، وهذا يُشير إلى عدم حماسته لهذا الفرع الذي توسع بعد موت فوكو.

هذا القسم والمسار من أزمات الحداثة تسقطها الفلسفة الأخلاقية للغرب كلياً، وفي عناوين الحوار النقدي الحديث. ودعونا نعود إلى جزءٍ من قائمة الأزمات التي عدَّدها حلاق، وهي منظورة مشهودة للعالم اليوم، مؤكدين أن ما ذكره من بروز جماعاتٍ مؤثرةٍ في القرية العالمية، ضمن تيارات الفلسفة الأخلاقية، يؤكّد الحاجة لشراكة كبرى للضلع الغائب، وهو الفلسفة الأخلاقية للمعرفة الإسلامية. وهناك مشترك بين بعض أقاليم العالم الجنوبي، وبين الشرق الإسلامي، في مراجعات هذا القسم، وهو ما يندرج تحت: التفكّك الاجتماعي والمجتمعي وزيادة الفردية السيادية النرجسية، والأمراض الاجتماعية العقلية، والتحوّل الوبائي لظاهرة الانتحار.

ظل تناول سعيد فوكو يقارب الزاوية التي تتفق برفض الدين والتراث (فوكو)، وأي قيم معرفية أو أخلاقية تناولها شيلر وغيره

يندرج هذا القسم كله نحو حياة البيئة الاجتماعية للإنسانية، وحجم التدمير لعلاقات هذه البيئة الذي شكل دوراً أساسياً وخطيراً، في إفقاد المجتمعات، بدءاً من الخلية الاجتماعية الصغيرة، وهي الزوج الرجل والزوجة المرأة، أو العلاقة الرومانسية بين الرجال والنساء، والتجاذب الطبيعي في إطار الحب الحميمي، أو الحب الوجداني التضامني بين الأب والأم وبين أولادهما، وخريطة الأقارب التي شكلت بقاء التناسل البشري. وكانت تعيش تحتها الإنسانية قبل الحداثة، في انسجامٍ عام وتبادل مصالح بيئية طبيعية، لا ينقضها مستويات الخلل والعنف التي مارستها خريطة الأقارب، في دوراتٍ زمنية واسعة للحياة البشرية، فالأصل يقاس هنا على مضمون السعادة التي حققها التضامن الاجتماعي والطمأنينة، وليس حالات الشذوذ من عنفٍ أو غيره، بحكم أن الشذوذ في التجاوز والإساءة، من خريطة الأقارب هي النسبة القليلة في البيئة الاجتماعية. وقواعد معالجة الظلم فيها يصحّح لأجل الضحايا لا الشذوذ عن القاعدة، كل هذه العلاقات تعرّضت، ولا تزال، لحرب تجريفٍ ممنهجة، وفُرضَت صور المثلية والعلاقات الاجتماعية المتطرّفة الانحراف، على ثقافة هذا العالم.

نأى سعيد بنفسه عن تطرّف فوكو الجنساني، الذي يُشكّل اليوم إحدى أهم أزمات زرعتها الحداثة، وهذا يُشير إلى عدم حماسته لهذا الفرع الذي توسع بعد موت فوكو

ولم يكن الأمر مطلقاً قائماً على فهم حالات تبنٍّ شخصي، أو ظروف العنف أو التجاوز عليها (الجندر المثلي)، بحسب إطارها الجنساني، وإنما تبنّت الحداثة المادية فرض حضور هذه الثقافة في التشكيكات الأولية للطفولة، معتمدة على هذا الأصل المزعوم، في تشكلات الجنسانية بحجّة قرار الفرد، وهو القرار الذي قام أصلاً على تقديس الفردانية كجسم مادي مستقل يسعى إلى اللذّة، وعبرها يصل إلى ما يقرّره بعد هذه اللذة، أو اللذات المتصاعدة. ولم يُسمح للشباب مطلقاً داخل جغرافيا الحداثة الاجتماعية بالاستماع إلى الرؤية النقدية التي تطرح لهم تراتبية المعرفة وحياة الإنسان، وحريته وتكامله مع المنظومة الاجتماعية، ثم تضامن المجتمع ذاته، من دون أن يضرّ الفرد بحقوقه، ولا أن يحرم نفسه متع الحياة، التي تقوم أصلاً في بعضها على مفهوم الشراكة بين الزوجين، وبين الفرد وكينونته روح إنسان، وليس جندراً مادياً، وهدماً للكيان الاجتماعي في وجدان الشباب، بدلاً من تسخير العلم الاجتماعي والبحوث الأكاديمية، لرعاية هذه الروح الإنسانية، ودعم شراكتها، مع بقاء حق الاستقلال في الحياة للفرد الإنسان إن شاء.