التفاؤل المُمْتَنِع في "الحوار الوطني الفلسطيني"

19 فبراير 2021
+ الخط -

لا تبشّر التطورات في الساحة الفلسطينية المترتبة على نتائج "الحوار الوطني الفلسطيني" في القاهرة، يومي الثامن والتاسع من شهر فبراير/ شباط الحالي، بخير. هذا ليس حكماً قيمياً مسبقاً، ولا هو من باب السلبية والتشاؤم. إنما هو استشرافٌ مبنيٌّ على أسس موضوعية، ويأخذ في اعتباره تجارب كثيرة، سابقة وفاشلة. وأضيف هنا، إن هذه من المواقف التي يتمنّى المرء أن يكون فيها مخطئاً. ولكن التمنيات لا ترسم مسار خلاص، ولا تجترح حلولاً لمخرجات سوء تخطيط وسوء صنيع. والفلسطينيون إن لم يقفوا لحظة مصارحةٍ صادقةٍ مع الذات، وإذا استمرّوا على النهج الفاشل نفسه، فإنهم سيبقون يدورون في الدائرة المغلقة ذاتها، لا انفكاك لهم منها.

لم تذهب الفصائل الأربعة عشر إلى القاهرة وفي نيتها معالجة الملفات الكبرى الجاثمة على صدر الشعب الفلسطيني، وتساهم في إجهاض قضيته. كما اتفاق أوسلو، والذي للمفارقة ترفضه الغالبية العظمى من تلك الفصائل، فإن اتفاق القاهرة أجّل القضايا المركزية والأساسية الملحّة إلى مرحلةٍ تالية، لا يُعْلَمُ ما إذا كانت ستأتي أصلاً. ما كان يهم جُلَّ هؤلاء هو تمهيد الطريق أمام الانتخابات التشريعية المفترضة في شهر مايو/ أيار المقبل. ومن كان يظن أن هذا يجيء عبثاً فهو واهِمٌ أو يمارس خداعاً للذات. لقد تعلمت القيادة الرسمية الفلسطينية من إسرائيل تكتيكات التفاوض، ولكنها تعجز عن توظيفها أمامها. أما مع شركائها في الوطن، ومع شعبها، فهي تجيد تلك الألاعيب اللاأخلاقية. اللافت في هذا السياق أن يقع في شباك حيل السلطة ذات من ينتقدون سقوطها المتكرّر في شباك حيل إسرائيل.

الانتخابات ليست هي الحل الآن. يكفي أن تتابع الخلافات في حركة فتح بين معسكري عباس ومروان البرغوثي

يدخل الانقسام بين حركتي فتح وحماس، واستتباعاً بين الضفة الغربية وقطاع غزة، عامه الخامس عشر. وبغض النظر عن من يتحمّل مسؤولية أكبر في ما جرى عام 2007، وعن من يتحمّل القسط الأكبر من اللوم على استمرار الانقسام، إلا أنه لا خلاف على أن هذا الانقسام كارثي على القضية والشعب الفلسطينيين. عقد ونصف من الحوارات، والمفاوضات، والوساطات، من فلسطينيين، ودول عربية ومسلمة، بل حتى روسيا دخلت على الخط، لم تنجح في جسر الهوّة بين الطرفين وإنهاء الانقسام. ولكن العار لا يتوقف عند هذا الحد، فكم مرّة تذرعت إسرائيل بضغوط من السلطة الفلسطينية لتشديد الحصار على قطاع غزة وسكانه الذين يزيدون على المليونين! ومع ذلك، وعلى الرغم من أن إسرائيل توظف الانقسام المشين لخنق غزة، ولإضعاف موقف الرئيس محمود عباس، بذريعة أنه لا يحظى بإجماع فلسطيني، فإن معالجة هذا الملف الخطير تمَّ تأجيلها، وإسناده إلى "لجنةٍ يتم تشكيلها بالتوافق، وتقدم تقريرها للرئيس محمود عباس، الذي يحيلها للحكومة التي ستشكل بعد انتخابات المجلس التشريعي، للتنفيذ"! ترى كم من مرة تكرّرت هذه اللغة في بيانات الحوارات بين الطرفين منذ عام 2007؟ وهل يعقل أن يكون أحد أخطر المتسببين في الانقسام واستمراره، أي عباس، ضامناً للحل؟

وقّعت "حماس" و"فتح"، في أكتوبر/ تشرين الأول 2017 اتفاق مصالحة في القاهرة، يقضي بعودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة بحلول الأول من ديسمبر/كانون الثاني من العام نفسه. لم يكد يمضي شهر حتى كانت الفصائل الفلسطينية تجتمع في القاهرة مجدّداً، في نوفمبر/ تشرين الثاني، حيث اتفقت على إجراء انتخابات عامة في موعد أقصاه نهاية عام 2018. وحسب ذلك الاتفاق، فإن الانتخابات الرئاسية والتشريعية وانتخابات المجلس الوطني في منظمة التحرير الفلسطينية ستجري متزامنة. النكتة كانت في "تخويل الرئيس محمود عباس تحديد موعد الانتخابات بعد التشاور مع كافة القوى والفعاليات الوطنية والسياسية". طبعاً، ما جرى بعد ذلك معروف.

فجأة وبقدرة قادر تتخلى "حماس" عن اشتراط التزامن في الانتخابات، وتقبل بتتابعها، بحيث تكون التشريعية في مايو/ أيار المقبل، والرئاسية في يوليو/ تموز، ثم انتخابات المجلس الوطني في أغسطس/ آب. أما من سيضمن إجراء هذه الانتخابات؟ عباس نفسه، مع لفتةٍ أخرى أن الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، هو الضامن الآخر! تُرى، ما الذي يدعو الفصائل الفلسطينية التي اجتمعت في القاهرة إلى التفاؤل، وهم يعيدون تكرار التجربة الفاشلة نفسها مرة بعد أخرى، وكيف يتوقعون منا تصديقهم إذا هم صدّقوا عباس فعلاً؟

حماس ليست في وارد القبول باشتراطات عباس في ما يتعلق بسلاحها والتنسيق الأمني مع إسرائيل

في شهر سبتمبر/ أيلول 2020 اجتمع أطراف حوار القاهرة الأخير أنفسهم في كل من رام الله وبيروت للاتفاق على خطوات التصدّي لـ"صفقة القرن" التي سعى الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، إلى فرضها على الفلسطينيين، ومثلت عدواناً مفتوحاً على الحد الأدنى من حقوقهم. اتفق المجتمعون على أن القضية الفلسطينية تمر بمرحلة تاريخية "خطيرة"، وتعهد عباس بـ"العمل لتحقيق الشراكة الوطنية"، وطالب حركتي فتح وحماس بـ"الشروع في حوار للاتفاق على آليات لإنهاء الانقسام". لم يكد يمض شهران على ذلك حتى كانت السلطة الفلسطينية تعود إلى مربع التنسيق الأمني مع إسرائيل، واستئناف الاتصالات معها، بذريعة إعطاء فرصة لإدارة الرئيس الأميركي الجديد، جوزيف بايدن. ثارت "حماس" والفصائل الأخرى على قرار السلطة الفلسطينية، ثمَّ عادوا يضعون الثقة في رئيسها الكهل المراوغ!

ما يحتاجه الفلسطينيون بشكل عاجل هو إنهاء الانقسام القائم حالياً بين الفصيلين الأكبر، ثمَّ بعد ذلك إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية التي تعاني من ترهل وانعدام شرعية أطرها المؤسساتية والقيادية، وإفراز قيادة شرعية فلسطينية وطنية جديدة. بدون ذلك، لا يمكن أبداً الحديث عن إعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني المُخْتَطَفِ وإطلاقه، والذي تمَّ طمس معالمه وتشويه كينونته. كما لا يمكن أن تنجح محاولات التصدّي للمخططات الإسرائيلية لإلغاء ما تبقى من فتات الحقوق الوطنية الفلسطينية. أما تصوير قرار إجراء انتخابات تتابعية نجاحا، فما هو إلا من باب تخدير الفلسطينيين، خصوصاً عندما يكون الضامن لها، والمخوّل بتحديد تفاصيلها هو ذاته من يعطّل إجراءها ما لم تضمن مصالحه. ألم يسأل المجتمعون أنفسهم لماذا يصرّ عباس وتياره في حركة فتح على انتخابات تتابعية، لا متزامنة، للمجلس التشريعي والرئاسة والمجلس الوطني؟ هم يعرفون الإجابة، إذ أن ما يهم الرئيس، المنتهية ولايته دستورياً منذ عام 2009، ومن معه، "السَطْوَ" على "الشرعيات" السياسية الفلسطينية، أو تفجيرها في حال فشلوا في الانتخابات التشريعية.

هل يعقل أن يكون أحد أخطر المتسببين في الانقسام واستمراره، أي عباس، ضامناً للحل؟

 

"حماس" ليست بريئة في ما يجري. يمكن أن نجد لها الأعذار بسبب معضلتها في قطاع غزة المحاصر والضيق الذي يعانيه شعبه. لكنها تدرك قبل غيرها أنها ليست في وارد القبول باشتراطات عباس في ما يتعلق بسلاحها والتنسيق الأمني مع إسرائيل. ثمَّ ماذا لو رفض عباس عقد انتخابات رئاسية بعد التشريعية، أو إصلاح منظمة التحرير؟ وماذا لو يلتزم بنتيجة الانتخابات التشريعية إن خسرها، أو لو لوّح بها في وجههم بذريعة "التفويض الشعبي"، إن كسبها، لصالح اشتراطات اتفاق أوسلو الذي تجري الانتخابات تحت سقفه أصلاً؟ وماذا لو شابها تزوير أو مزاعم بذلك؟ وماذا لو جرت في ظل أجواء قمعية وغياب الحريات واستمرار الاعتقالات السياسية، وهي الأمور، للمفارقة أيضاً، التي فُوِّضَت لعباس كي يعالجها؟ وماذا لو رفضت إسرائيل والعالم الاعتراف بنتائجها إن لم تجئ على أهوائهم، كما حصل عام 2006؟ بالمعاني السابقة، فإن الانتخابات قد تكون مدخلاً إلى مزيدٍ من التشرذم الفلسطيني، وليس لإنهاء الانقسام.

لذلك كله، ليست التفاهمات التي تم التوصل إليها أخيرا مشجعة، والانتخابات ليست هي الحل الآن. يكفي أن تتابع الخلافات في حركة فتح بين معسكري عباس، والأسير مروان البرغوثي، وتهديد المعسكر المحسوب على الرئيس بفضائح وانتقام يطاول عائلة البرغوثي إن تجرأ ونافسه على الرئاسة أو شكل قائمة مستقلة في الانتخابات التشريعية. أما معسكر فتح الثالث، الذي يمثله محمد دحلان، ويرفض عباس، إلى الآن، التجاوب مع ضغوط مصر والإمارات والأردن للتصالح معه، فإن "حماس" تقوم بمهمة تمكينه عبر فتح أبواب قطاع غزة له ولمناصريه للعودة وإدارة المعركة الانتخابية من هناك. وحده الشعب الفلسطيني يبقى رهينة حسابات كل فصيل ومعضلاته، بل وحسابات التيارات المتنافسة داخل الفصيل الواحد، سواء أكانت "فتح" أم "حماس"، فحتى هذه الأخيرة لا يوجد فيها توافق على ما يجري. وما لم يتح لنا، نحن الفلسطينيين، في كل أماكن وجودنا، أن نساهم في صياغة مشروعنا الوطني، على أساس أننا شركاء لا مَتاعٌ يُوَرَّث، ولا حصص يتم تقاسمها في المجلس الوطني، فإننا سنبقى أسارى الدائرة المغلقة، ولن نتمكّن من أن نتلمس أولى خطواتنا نحو تغيير هذا الواقع المشؤوم.

D010C1F7-152B-4D4C-9C8B-30DD6BA24CCB
أسامة أبو ارشيد

كاتب وباحث فلسطيني مقيم في واشنطن