التغيير الثقافي المتدثّر بعباءة السياسي

26 يناير 2025

(نجيب بلخوجة)

+ الخط -

بالفعل، ليس الأمر عادياً أو طبيعيّاً أن يكون رئيس الوزراء البريطاني الأسبق والسياسي المخضرم، توني بلير، هو الذي يحاور وزير الخارجية السوري للإدارة الجديدة، أسعد الشيباني، ابن جبهة النصرة سابقاً وهيئة تحرير الشام لاحقاً، وهو مشهدٌ ربما لو أراد أحدٌ أن يتخيّله قبل أعوام لسخر الجميع منه. لكن المفاجأة الكبرى لمن لا يزالون يروْن في هيئة تحرير الشام حركة جهادية مرتبطة بتنظيم القاعدة أنّ الوزير السوري الشاب حدّد النماذج الملهمة له من رؤية السعودية الاقتصادية 30 والنموذج السنغافوري. وعندما تحدّث عن أولويات الحكومة ركّز على القطاعات الخدماتية الرئيسية؛ الصحة والتعليم والطاقة والاتصالات والطرق والمطارات.

ولم يتردّد الشيباني أن يطلق شعار "سورية أولاً" بما يعكس حجم التحوّل الأيديولوجي والفكري الذي (بالمناسبة) على النقيض مما يردّده مراقبون كثيرون لم يحدُث فجأة، بل كان حصيلة أعوام طويلة من التحولات المرتبطة بمسار محدّد انتقلت فيه هذه الحركة الجهادية (سابقاً) من مرحلة الأيديولوجيا الجهادية إلى البراغماتية السياسية الوطنية. وتبدو بصمة النموذج التركي بارزة على هذه الصيغة الجديدة في الفكر والسياسة والحركة.

في منتدى دافوس نفسه، وفي مشهدٍ لا يقل إثارة هو الآخر، كان نائب الرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية، محمد جواد ظريف، يقدّم طرحاً مفاجئاً مع الإعلامي الأميركي المعروف، فريد زكريا، إذ حمّل ظريف، ضمنياً، حركة حماس مسؤولية فشل المفاوضات النووية الإيرانية مع الأميركيين، وفي الوقت نفسه، قدّم رسائل ودية نحو الغرب، وحاول تجميل الدبلوماسية الإيرانية، وهو، وإن لم يقل علناً ومباشرة، إيران أولاً، فإنّ حديثه يستبطن ذلك تماماً. وإذا كان الرجل شخصية جدلية داخل النظام الإيراني نفسه، وقد واجه دعوات إلى المحاكمة سابقاً، وبعد الندوة طالب مسؤولون باعتقاله فور عودته في المطار، إلّا أنّه يعكس، في الوقت نفسه، مزاج تيارٍ عريضٍ في النظام والشارع الإيراني يحمل أفكاراً مغايرة تماماً للتي يؤمن بها التيار الأيديولوجي هناك، ومع المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، وهو أمرٌ من الواضح أنّه لا يقتصر على الخلافات على الشأن الداخلي، بل الخارجي أيضاً في السياسات الإيرانية.

على صعيد موازٍ، أثار (أيضاً في الأيام القليلة الماضية) زعيم لواء أبي الفضل العباس، أوس الخفاجي، المرتبط بالحشد الشعبي العراقي، وهو الذي كان يقاتل سنواتٍ في سورية، جلبة سياسية وإعلامية في العراق، عندما اتهم، في مقابلة تلفزيونية، إيران بالتخلي عن حسن نصر الله وسورية واستعدادها للتخلي عن آخرين في سبيل حماية إيران ومصالحها الاستراتيجية في المنطقة. وبالرغم من أنّ الخفاجي معروفٌ بانتمائه إلى التيار الصدري وانتقاداته المتكرّرة إيران، لكن ما قاله يعكس أسئلة ونقاشات تدور في أروقة مغلقة في ما يسمّى "محور المقاومة"، وحجم الخسائر والكلفة التي دفعها بعد عملية طوفان الأقصى.

على الجهة المقابلة، وضمن ما يوصف بمحور المقاومة نفسه، لا تقلّ تصريحات موسى أبو مرزوق، أحد أبرز قادة حركة حماس، سخونة وإثارة، فالرجل دعا مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترامب للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، إلى زيارة غزّة ولقاء قادة "حماس"، ووصف ترامب بالرئيس الجادّ لدوره في الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار؛ وبالرغم، كذلك، أنّ أبو مرزوق هو الآخر محسوبٌ على التيار البراغماتي في الحركة، وسبق أن أطلق تصريحاتٍ جدلية مشابهة، لكنه يعكس، أيضاً، توجهات ونقاشات في أوساط قيادة الحركة للتعامل مع المرحلة المقبلة، بخاصة بعد اتفاق وقف إطلاق النار في غزّة.

في الخلاصة؛ من الواضح أنّ عمليات إعادة الاصطفاف وبناء المسرح الإقليمي وتوزيع الأدوار ما بعد الحرب على غزّة؛ لا تقتصر على الجوانب الاستراتيجية والسياسية، بل تعكس تحولات ثقافية وفكرية ما تزال تتطوّر وتختمر في المنطقة، فمثل هذه الخطابات غير التقليدية ومراجعة الحسابات تتجاوز مسألة المواقف السياسية إلى الأيديولوجيا والأفكار والثقافة، وهي مسائل أكثر عمقاً من الحسابات السياسية الآنية، وهي المسألة التي تستحقّ فعلاً التحليل والبحث في المرحلة المقبلة.

محمد أبو رمان
محمد أبو رمان
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي في معهد السياسة والمجتمع.