التعقيم الممنهج أحد أشكال الإبادة الجماعية
التعريف الأكاديمي الأكثر انتشارا لمفهوم الإبادة الجماعية، جريمة تتمثل في القضاء المتعمّد والجزئي على مجموعة قومية أو إثنية أو دينية بطريقة منهجية، ما يعني أن أعضاء المجموعة يقتلون، أو يكسرون عقليّاً وجسديّاً، أو (يصبحون غير قادرين على الإنجاب)، من أجل جعل الحياة صعبة أو مستحيلة بالنسبة للمجموعة المستهدفة. وعرّفت المادة 2 من اتفاقية الأمم المتحدة الإبادة الجماعية كما اعتمدت في ديسمبر/ كانون الأول 1948، ودخلت حيّز التنفيذ في يناير/ كانون الثاني 1951 بأنها: "أحد الأفعال التالية، المرتكبة (بنيّة) تدمير، كليّاً أو جزئيّاً، مجموعة قومية أو عرقية أو دينية"، ومن هذه الأفعال المقصودة بـ "التالية": "فرض تدابير لمنع الولادات داخل المجموعة". إضافة إلى بقية الأفعال التي تنطبق على ما تفعله إسرائيل بالشعب الفلسطيني، ليس في الحرب الحالية على قطاع غزة فحسب، بل إن ممارساتها التي تخدم هذا الهدف مستمرة منذ عقود بحق الشعب الفلسطيني.
لا تنحصر الإبادة في فعل القتل المستمر والعمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي على مناطق قطاع غزّة بكل ما تحوي من بشر وحجر وشجر، من بنية تحتية ومدارس ومشافٍ ومراكز إغاثة وغيرها، مضافةً إليها سلسلة من جرائم القتل العنصرية التي يمارسها المستوطنون بحق سكان الضفة الغربية وتركهم من السلطة من دون عقاب، بل وتساعد في تسليحهم، فتساهم في القضاء على الشعب الفلسطيني، بل هناك أساليب خبيثة تفعل فعلها كما يفعل النخر في النسيج الحي فتأتي عواقبه مع الزمن.
تنطبق عبارة "فرض تدابير لمنع الولادات داخل المجموعة" على واقع الحال في قطاع غزّة كاملاً، وهذا يؤكّد الإبادة من جهة، ويؤكد مرامي إسرائيل ومعها حليفتها الولايات المتحدة حول الهدف الرامي إلى تهجير سكانه منه والسيطرة التامة عليه، وتحقيق حلم ترامب بتحويله إلى "ريفييرا الشرق".
ما تمارسه إسرائيل بكل وحشية في غزّة يهدد، ليس جيلًا كاملًا فحسب، بل يقتل مستقبل شعب ويبيده بالكامل
لا ينمو مجتمع إنساني ولا يستطيع العيش من دون صحة، أهم عنصر في منح الحياة "المرأة" وأمنها، والنساء الفلسطينيات والفتيات الشابات، بل حتى الطفلات منهن، في مرمى أخطار متزايدة، قبل أن يواجهن تحدّيات الأمومة والإرضاع والعناية بأطفالهن، بسبب الاكتظاظ في الملاجئ ونقص مرافق الصحة العامة، والعيش في دوّامة القلق والخوف بلا انقطاع، كما تقول إحدى الأمهات، وقد جرى تهجيرها 20 مرة على الأقل: في شمال غزّة، لم يعد الفرار يقاس بالكيلومترات، بل بالذهاب والإياب غير المجدي. تدفعهم العمليات العسكرية الإسرائيلية، بلا مأوى ولا وجهة، تطول لياليهم لتصبح بلا نهاية، ونهاراتهم مرصودة للبحث عن شربة ماء، أو كسرة خبز بعد أن صارت حلماً، أو خيمة لا تمنع عنهم برداً أو مطراً أو قيظاً، أو قنابل وصواريخ حاقدة. من مخيم إلى آخر، حتى كثبان الشاطئ الرملية التي قد يبتلعها الموج في أي لحظة لم يعُد فيه مكان لخيمة. وفي هذا الدوران المذعور في كل الاتجاهات، يمررن مع أطفالهن الذين بقوا في قيد الحياة، وفق قانون الاحتمالات فحسب، بالجثث المتفحمة المرمية في الطرقات وبين الأنقاض، وكبار السن الذين تُركوا لأن سيارات الإسعاف لم تعد تستطيع الوصول إليهم، والرحلات سيراً على الأقدام فوق طاقتهم.
أمّهات يناضلن من أجل العثور على الغذاء والماء والرعاية الطبية (المفقودة) والمأوى لأطفالهن. أما ما تفعل بهن هذه الحرب الحاقدة، فحكاية أخرى، مطعونات في أمومتهن منذ أن تكون الأمومة مجرّد مقدّمات بيولوجية يتحضّر لها جسد الطفلة الأنثى كي تقوم بهذه الوظيفة البيولوجية التي تمنحها إياها الطبيعة، ومن بعدها حلماً صار يائساً، لكن الأمومة في غزّة تُلاحق وتستهدف بخبث وشرّ. فعدا الظروف غير الإنسانية التي تعيش فيها الفتيات، والجوع الممنهج والعيش في ظروف تذبح الكرامة وتنتهك الجسد، فإن المرأة الحامل تخوض حرباً وجودية أخرى، فالحرب تدمّر المستشفيات وأماكن الرعاية، وعديد من مراكز الصحة الأولية وبرامج معالجة سوء التغذية لدى الأطفال اضطرّت إلى إغلاق أبوابها بسبب القصف، وبحسب وكالة الأمم المتحدة للصحة الإنجابية، فإن آلافاً من الحوامل يعتمد بقاؤهنّ على القابلات، اللواتي يواصلن تقديم الرعاية، "غالباً تحت نيران القصف وعلى ضوء الهاتف المحمول فقط"، ويعشن الظروف القاتلة نفسها.
تقول المديرة الإقليمية للدول العربية في صندوق الأمم المتحدة للسكان، ليلى بكر: "لكل أم وكل طفل حق في ولادة آمنة وبداية جيدة في الحياة. ومع ذلك، نحن نشهد إنكارًا منهجيًا لهذه الحقوق الأساسية، ما يدفع جيلًا كاملاً إلى حافة الهاوية".
بحسب وكالة الأمم المتحدة للصحة الإنجابية، فإن آلافاً من الحوامل يعتمد بقاؤهنّ على القابلات، اللواتي يواصلن تقديم الرعاية، "غالباً تحت نيران القصف وعلى ضوء الهاتف المحمول فقط"، ويعشن الظروف القاتلة نفسها
لقد انخفض معدل الولادات بنحو 41% منذ العام 2022، وزادت حالات الإجهاض بنسبة 300%. تزايدت وفيات الأمهات في أثناء الولادة: 220 أمًّا توفين خلال الربع الأول من عام 2025، أي أكثر من 20 مرّة مقارنة بالفترة نفسها في عام 2022، بين يناير/ كانون الثاني ويونيو/ حزيران 2025، توفي ما لا يقل عن 20 مولوداً جديداً خلال 24 ساعة من ولادتهم. وُلد ثلث الأطفال بشكل مبكر، وكان لديهم نقص في الوزن أو اضطررنا إلى إدخالهم للعناية المركزة لحديثي الولادة، لقد تراجع الوصول إلى الرعاية الأساسية لحديثي الولادة بنسبة 70%، كما تصرّح.
وفي ظلّ التجويع الذي تمارسه إسرائيل، فإن المرأة الحامل، أو المرضع، زيادة على جوعها ونقص التغذية وفقر الدم بسبب انعدام الوارد الغذائي، فإن البدائل الدوائية غير متوفّرة لصون الحمل وصحّتها كحمض الفوليك وأملاح الحديد والفيتامينات المتعددة وغيرها من المكمّلات الضرورية للحمل، ما يزيد من خطر تشوّهات الأجنة، عدا الخطر على صحة المرأة وحياتها، وعدا العقاقير الضرورية من أجل سير المخاض المتعثر أو تدبير حالات التسمم الحملي وإرقاء النزيف في حال حدوثه.
يطول الحديث عن أخطار الحرب، وتهديد الحياة باستهداف صانعات الحياة وصاحبات البطون الخلاقة، بطرائق ممنهجة ومدروسة بعناية فتصيب الحياة بمقتل في كل تفصيل منها، لكن لا بد من لفت الانتباه إلى أمر آخر من ضمن أمور لا تعدّ ولا يمكن حصرها لكثرتها، مشكلة لا يمكن التنبؤ بنتائجها بشكل دقيق، وهي تخص حديثي الولادة الذين انفصلوا عن أمهاتهم عند الولادة خلال عمليات إخلاء المستشفيات يعيشون الآن مع أشخاص آخرين، قد يكونون هم أنفسهم مصابين أو معاقين أو غير قادرين على العناية بهم بشكل صحيح، ومواليد آخرين تركتهم الحرب دون هوية قانونية، حيث إن انهيار البنية التحتية المدنية الرئيسية يمنع تسجيل الولادات. تقدر دائرة الشؤون الإنسانية التابعة للأمم المتحدة (أوتشا) عدد المواليد الجدد الذين لم يتم تسجيلهم في السجل المدني منذ 7 أكتوبر (2023) بنحو عشرة آلاف. كذلك فإن نقص الوثائق الرسمية، أو غيابها، يحدّ من وصول هؤلاء الأطفال إلى الخدمات الأساسية، مثل الصحة والتعليم والمساعدات الإنسانية، في ما لو توفرت.
المرأة الحامل في غزّة تخوض حرباً وجودية، فالحرب تدمّر المستشفيات وأماكن الرعاية، وعديد من مراكز الصحة الأولية وبرامج معالجة سوء التغذية لدى الأطفال اضطرّت إلى إغلاق أبوابها بسبب القصف
في غزّة، عواقب الأزمة الإنسانية على النساء الحوامل والمواليد الجدد كارثية. وفقاً لوكالة الأمم المتحدة المعنية بالصحة الجنسية والإنجابية، فإن سوء التغذية وانهيار نظام الرعاية الصحية والتوتر الشديد يهدد حياة جيل كامل. لا بل إن ما تمارسه إسرائيل بكل وحشية في غزّة يهدد، ليس جيلًا كاملًا فحسب، بل يقتل مستقبل شعب ويبيده بالكامل.
ما يميز هذا الجرم (الإبادة الجماعية) عن جريمة أخرى مثل جريمة ضد الإنسانية هو النية المحددة لتدمير المجموعة المستهدفة، كما جاء في المادة 2 المذكورة آنفاً، وإن مفهوم النية هو الذي يعطي مصطلح الإبادة الجماعية خصوصيته الكاملة، لكن إثباته، بحسب بعض المختصين، يوصف بأنه دقيق وصعب، كما يقول ثايس بوفكنغيت، الخبير في الإبادة الجماعية الذي عمل مع المحكمة الجنائية الدولية، في مقابلة مع وكالة الأنباء الفرنسية. "يجب إثبات أنه كانت هناك نية، وأن هذه النية كانت التفسير الوحيد الممكن لما حدث"، فهل بعد كل ما يجري يصحّ السؤال عن توفر "النيّة" في الإبادة لدى إسرائيل؟ إنها، وعلى الرغم من توافر كل الشروط التي تؤكّد النية على الإبادة الجماعية، ترفض وتستنكر بشدة الادّعاءات المتعلقة حتى بالجرائم ضد الإنسانية وليس الإبادة، واصفة إياها بأنها "أكاذيب صارخة"، وتصرّ على أنها تمارس حقها في الأمن والدفاع عن النفس، الحجّة التي يتبناها حلفاؤها، وأقوى حليف لها، الولايات المتحدة.