Skip to main content
التعريف الفرنسي للتطرّف الإسلامي
محمد طلبة رضوان

دأبت فرنسا، منذ أواخر القرن الماضي، على التدخل في "تديّن" أفرادها ومواطنيها من الفرنسيين المسلمين، وإعادة هندسة دينهم، وفق الرؤية الفرنسية البيضاء. لم يكن تنظيم داعش قد ظهر بعد، إلا أن السياسات الفرنسية، منذ ذلك الحين، ساهمت بدور فعال في إعداد بيئة التجنيد والتحشيد المناسبة لظهوره!

في نوفمبر/ تشرين الثاني 1997، طالب وزير الداخلية الفرنسي، جون شوفينمون، بتأسيس مؤسسة فرنسية مهمتها فرنسة الإسلام، وقال الرجل بشكل واضح "نريد إسلاما فرنسيا"، إسلاما نقدّمه للفرنسيين، ولم ير أي تعارضٍ بين علمانية فرنسا وتدخله الرسمي بالتفكير والتخطيط والتنسيق مع شيوخ مسلمين لتفصيل نسخةٍ فرنسيةٍ من الإسلام، وقال إن الأمر عادي، الدين مهم، والإسلام مهم، ونحن مهتمون.

فشلت المحاولة، فلا دين بالتوجيهات السياسية والأمنية، خصوصا في أوروبا، إلا أن الدولة الفرنسية لم تتوقف. رحل شوفينمون، وجاء ساركوزي وزيرا للداخلية في حكومة جاك شيراك، ورئيس الجمهورية فيما بعد، وطالب، بدوره، في إبريل/ نيسان 2003، بضرورة التنسيق الكامل بين الدولة الفرنسية والمؤسسات الإسلامية لاختيار الأئمة والشيوخ، والاتفاق حول محتوى البرامج الدينية التلفزيونية. وبعدها بشهرين، أعلن ساركوزي عن تأسيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، كأول مؤسسة "شبه رسمية" مهمتها تنظيم الحياة الدينية للمسلمين.

فشلت المحاولة ثانية، على الرغم من تبنّي الدولة، ودفعها، وتشجيعها، ونصائحها الملزمة. ومرّ عامان، وعادت الداخلية الفرنسية لتعلن عن مؤسسةٍ جديدة، مهمتها "فرنسة الإسلام". وأعلن وزير داخلية ثالث، هو دومينيك دو فيلبان، عن مؤسسة "إسلام دو فرانس". الصيغة نفسها، والأجندة نفسها، والخطاب نفسها، نريد إسلاما فرنسيا، إسلاما يشبهنا، يتحدّث بلغتنا. والنتيجة هي هي، فشلت المحاولة، ولم تقدّم المؤسسة أي شيء، ولم يقدّم لها المسلمون أي شي، وتوارت عن الحضور الفيزيائي عشر سنوات، قبل أن تعاود الظهور، وإثارة الجدل، في العام 2006، حيث عادت "إسلام دو فرانس" هذه المرة، ليس بمبادرةٍ من الداخلية الفرنسية، بل برئاسة وزير داخلية سابق، هو جون شوفينمون، ما يعني أن الدولة الفرنسية لم تجد في كل مواطنيها مسلما واحدا يصلح لرئاسة مؤسسةٍ إسلاميةٍ، فجاءت بمسؤولٍ سياسي أمني، غير مسلم، ليتولى تفصيل النسخة الحكومية من الإسلام!

صاحبت المحاولات الحكومية لفرنسة الإسلام تصريحاتٌ رسميةٌ لمسؤولين، رؤساء ووزراء، واقتراحات بتشريعات وقوانين تكشف بوضوح عن التعريف الفرنسي للتطرّف الإسلامي، والمفهوم الفرنسي للإسلام الحالي والإسلام المأمول، فالإسلام المتطرّف هو الإسلام غير الفرنسي. تصريحات تتابعت لشيراك وساركوزي وماكرون، وغيرهم من السياسيين اليمينيين، واليساريين الذين تراوحت خطاباتهم بين الدفاع عن حقوق المسلمين تارّة، والهجوم عليهم وعلى دينهم وطقوسهم تارة أخرى، حسب ظروف المزايدات السياسية. وظهرت قوانين منع ارتداء الرموز الدينية، الحجاب والصليب والكيباه اليهودية، في 2004 ووافق شيراك. وتصريحات ساركوزي ضد الحجاب الذي هو فريضة إسلامية في نظر ملايين المسلمات، وكذلك تصريحاته عن الأكل الحلال، غير الفرنسي بطبيعة الحال، ورفضه ثياب البحر التي ترتديها المسلمات "البوركيني"، وهو النفس العدائي العنصري الذي تسابق سياسيون يمينيون ويساريون في تبنّيه وتكراره، لمغازلة العنصرية الفرنسية ضد المسلمين، وما يأكلونه وما يشربونه وما يلبسونه، وهو ما كرّره ماكرون أخيرا في خطاباته المختلفة، والتي اعتبر فيها الحجاب من جملة الانتهاكات في حق الجمهورية، وفي تغريداته الرعناء واللا مبالية، وجديدها تغريدته الكوميدية إن "العلمانية لم تقتل أحدا"، وهو ما يعني، بدلالة المخالفة، إن ما تتبنونه من إسلام غير فرنسي وغير علماني، وفق المفهوم الفرنسي، هو من يقتل، وباختصار: الإسلام المتطرّف والراديكالي والانفصالي والانعزالي والخطر على قيم الجمهورية الفرنسية هو الإسلام غير الفرنسي، ليس إسلام داعش، ولكنه إسلام العرب، الإسلام بكل نسخه المتاحة، في الماضيين، البعيد والقريب، فضلا عن الحاضر، الإسلام الدين، والإسلام السياسي، الداعشية، والسلفية، والإصلاحية، وحتى الحداثية، غير الفرنسية، التي تدعم حق المسلمين في أن يكونوا مختلفين، إسلام الحجاب، والبوركيني، والأكل الحلال، أما الإسلام التنويري المأمول فهو الإسلام الفرنسي، فالتطرّف بالضرورة غير فرنسي!