التعدّدية هاجساً... من يكتب عقد العيش المشترك؟
(فاتح المدرس)
استضافت الحسكة في الثامن من أغسطس/ آب الجاري، مؤتمراً تحت اسم "مؤتمر وحدة المكوّنات". حضر ممثلون عن الكرد والعرب والسريان والتركمان والشركس وغيرهم. عنوانه أوحى بالسعي إلى صيغة جامعة، غير أن ردات الفعل كشفت انقساماً حادّاً في قراءته. فريق اعتبره خطوة نحو عقد اجتماعي جديد، وآخرون رأوه ترسيخاً للفواصل بين المكوّنات. انعقاده في لحظة عجزت فيها السلطة السورية عن إنتاج توافق وطني، حوّل النقاش من تفاصيله الإجرائية إلى سؤال أعمق: كيف يمكن إدارة التعدّدية في دولة منهكة خارجة من حرب؟ ومن يمتلك شرعية وضع الإطار الناظم للجميع؟
تفكّك السلطة الشمولية يجرّ معه تفكّك المرجعية المشتركة المفروضة قسراً من تلك السلطة. الهوية السياسية الناشئة هنا تصبح سائلة، تتشكل سريعاً لكنها قابلة للانكسار. في هذه المساحة الهشّة، تتحوّل الهويات الفرعية إلى عبء حين تنغلق على ذاتها وتتعامل مع الدولة من خارج رابطة المواطنة. التجارب البشرية توضح أن العبور الديمقراطي في المجتمعات المتعددة لا يتحقق إلا عبر هندسة توافقية دقيقة، تُوزّع السلطة والموارد بما يمنع الغلبة ويجعل الإقصاء غير ممكن عملياً. الدولة، في هذه اللحظات، ليست أداة قمع ولا كياناً محايداً بالكامل، بل ساحة تعاقد دائم بين الفاعلين الاجتماعيين. واللامركزية رغم أنها قد تخفّف منسوب القلق، وتمنح المكوّنات ضمانات البقاء، لكنها ليست حلّاً سحريّاً. السوريون لن يعيشوا معاً بالقسر ولن يتوزّعوا السلطة بالقسر أيضاً. وفي الوقت نفسه، لا يمكن بناء الثقة بوجود قتلة طلقاء أو خوف متجدد بين مكوّنات الشعب. التجارب من البوسنة وجنوب أفريقيا تبيّن أن النجاح لا يأتي من حياد الدولة تجاه الهويات، بل من اعترافها بها جميعاً ودمجها في صيغة سياسية تجعل كلفة الخوف أعلى من كلفة التعاون. لا يمكن للدولة السورية الجديدة بدورها أن تبني شرعيتها وتطلب من الناس الثقة بها وتسليمها مقاليد حياتهم وهي تتعامل مع الجرائم الكبرى كما لو أنها وقعت في زمن آخر أو على يد كيان منفصل عنها. وأي سلطة تتحمّل مسؤولية ما فعله من تصدّر تمثيلها، سواء عبر مؤسّسات رسمية أو عبر أفراد وكيانات تحركوا تحت رايتها أو باسمها الضمني. أحداث الساحل والسويداء لم تكن مجرد انحرافات فردية، بل أفعال ارتكبت في مناخ سياسي وأمني صنعته السلطة، وغُضّ الطرف عنها، وأحياناً جرى تبريرها. مسؤولية الدولة الجديدة هنا مزدوجة: قانونية لأنها الجهة التي ورثت جهاز السلطة وأدواته، وبالتالي ملزمة بملاحقة من استغل هذه الأدوات لارتكاب انتهاكات، وأخلاقية لأنها لا تستطيع أن تدّعي تمثيل مواطنين ما لم تُظهر بوضوح أن حياة أي فرد، أيّاً كانت هويته، مصونة من العنف، وأن أي اعتداء عليه سيُواجَه بالمساءلة، حتى لو كان المعتدي ممن قاتلوا دفاعاً عن الدولة أو باسمها. وتجارب العدالة الانتقالية أثبتت أن تجاهل هذا النوع من المسؤولية يعيد إنتاج الانقسام. البوسنة، جنوب أفريقيا، وحتى تشيلي بعد بينوشيه، واجهت هذا التحدي بإقرار أن الدولة الجديدة مسؤولة عن تفكيك إرث الإفلات من العقاب، لا عن إعادة إنتاجه. في غياب هذه المحاسبة، لن يرى كثير من السوريين في الدولة سوى الامتداد نفسه للسلطة التي أذتهم وارتكبت الجرائم بحقهم، وسيبحثون عن ضمانات خارجها، كما كان دافع كثيرين إلى لقاء الحسكة وما سيليه من لقاءات. الدولة التي ترفض مواجهة هذا الإرث تحكم على مشروعها الوطني بالبقاء هشّاً، لأن أي دعوة إلى التعايش ستظلّ محكومة بسؤال لم يُجب عنه: من يحميني إذا كان القاتل ما زال حرّاً؟ في سورية، ما زال الباب مفتوحاً. العبور يتطلب اتفاقاً داخليّاً يعترف بحق الجميع في الوجود والمشاركة. التنوّع قدر لا يمكن محوه. والتاريخ، مهما ثقل بالدم، يمكن أن يتحوّل إلى ذاكرة مؤسّسة بدل أن يبقى جرحاً مفتوحاً. الديمقراطية، المحاسبة، العدالة؛ هذه ليست مجرّد شعارات، بل الإطار الوحيد القادر على تحويل الصراع إلى تنافس، والخوف إلى ضمان متبادل، والذاكرة إلى أساس لعدم تكرار الألم.