التعايش الوزاري الفرنسي

التعايش الوزاري الفرنسي

29 مايو 2022

اجتماع للحكومة الفرنسية الجديدة في فندق في باريس (27/5/2022/فرانس برس)

+ الخط -

بعد انتظار طال قرابة الشهر، تشكّلت الحكومة الفرنسية الجديدة التي كان من المنتظر أن ترى النور بعد أيام قليلة إثر نجاح الرئيس ايمانويل ماكرون في الفوز بولاية رئاسية ثانية في الشهر الماضي (إبريل/ نيسان). وقد عزا المراقبون هذا التأخير القياسي إلى عدة أسباب، أهمها عدم القدرة على اختيار المناسبين من الشخصيات لتولي رئاستها. وتداول المراقبون إشاعاتٍ تتعلق بتسمية أو باقتراح تسمية مرشّحين ومرشّحات سرعان ما رفضوا هذه المهمة. وتراوحت الآراء بين من يعتبر أن المرشحين الرافضين لم يقبلوا في أن يكونوا "شهود زور" على نيوليبرالية تتنامى، حسب منتقدي الرئيس ماكرون، أو أنهم لا يريدون أن يتولّوا مسؤولية هذا الموقع في فترة الأزمة الاقتصادية الخانقة، والتي لعب فيها غزو روسيا لأوكرانيا دوراً تصعيدياً.

في السادس عشر من مايو/ أيار الجاري، عيّن الرئيس ماكرون وزيرة العمل في حكومة ولايته الأولى الأخيرة، إليزابيت بورن، رئيسة للوزراء وهي السيدة الثانية التي تتولّى هذا المنصب بعد إديت كريسون التي اختارها الرئيس الراحل فرانسوا ميتران سنة 1991، لتكون المرأة الأولى في تاريخ الجمهورية الفرنسية تتولى مثل هذه المسؤولية. تحدٍ مهمٍ لسيدة يعرف من تعامل معها، في مختلف مناصبها السابقة، دقتها في العمل وصرامتها. إثر هذا الاختيار، ترد تساؤلات عدة: هل شخصية السيدة بورن القوية كما كفاءتها التي ترجمتها عملاً جاداً ونتائج إيجابية ضمن مختلف المواقع التي شغلتها كانت سبباً مرجّحاً في اختيارها؟ وهل كونها امرأة يمكن له أن يترجم سعياً ماكرونياً إلى اكتساب صفة الرئيس المنفتح، ولتعزيز حظوظه في أن يعتبر مجدّداً ليس فقط في ميدان السياسة، ولكن أيضاً في مسألة الحقوق الجندرية في ظل مجتمع ذكوري، مهما ادّعى رموزه العكس. وبالتالي، يُثبت ماكرون أنه مناصر لدور أكثر بروزاً للمرأة لكي تتحقق المساواة، ولو في حدودها الدنيا، بين الرجل والمرأة في هذا المجتمع؟

أغلب الوزراء الجدد في الحكومة الفرنسية أتوا من اليسار المعتدل

 

لقد عُرف عن الرئيس ماكرون فرط نشاطه ورغبته الدائمة والمتجدّدة صعوداً في متابعة أغلب الملفات. وفي ظل الجمهورية الخامسة القائمة في فرنسا، تنحصر إمكانية رئيس الجمهورية نظرياً، وحسبما جرت عليه العادة، بالمتابعة المباشرة للشؤون العامة في حقلي الخارجية والدفاع. وعلى الرغم من وجود جسم دبلوماسي كفؤ ووزارة خارجية عريقة، فإن الخلية الدبلوماسية الملحقة بقصر الرئاسة هي الوزارة الحقيقية، وهي التي ترسم معظم تفاصيل السياسات الخارجية وتسهر على تنفيذها. وقد وصل الأمر ببعض الملاحظين إلى وصم هذه الخلية بصفة وزارة الظل. وفي الشأن الدفاعي، يمكن النظر بعين المراعاة أكثر لقبول الدور الرئاسي المباشر، كون الدستور ينصّ على قيادته القوات المسلحة. وبالتالي، كانت العادة تنصّ دائماً على أن يكون وزير الدفاع شخصاً مطيعاً منفذاً بدقة سياسة الإليزيه، وغالباً ما تناط به عملية تسويق منتجات الدولة العسكرية أكثر مما يعتمد عليه في المساهمة في عملية رسم السياسات الدفاعية، وتفعيل الخطوات العملية لتنمية مقدّرات القوات المسلحة.

الرئيس الفرنسي، الذي يستعد، مع تكتله السياسي الجديد، المسمّى "النهضة"، لخوض الانتخابات التشريعية بعد أسبوعين، يسعى إلى الإمساك بمجمل الملفات من دون أن يحرم مشرفيها المباشرين الحقّ في المساهمة الفعلية في إدارتها. وقد وضع أولويات ثلاثاً للحكومة الجديدة: تحسين القوة الشرائية، تحسين الواقع الصحي، العمل على تخفيف الآثار السلبية على الوضع البيئي.

من خلال استطلاع سريع للحكومة الجديدة، يمكن التأكد من متابعتها السياسات الاقتصادية الإنقاذية طوراً، وكثيرة الليبرالية في أطوار أخرى، فقد نجحت السياسة الاقتصادية في تأمين عبور فرنسا الوباء ونتائجه بأقل الخسائر من دون شك. كما يُلحظ استمرار من نجح من الوزراء السابقين، ليس في عملهم فقط، بل أيضاً في تنفيذ رغبات سيد الإليزيه السياسية والاجتماعية. وأبرز الحالات هو وزير الداخلية جيرار دارمنان، الذي ينشغل في الدفاع عن تجاوزات رجال الشرطة أو بلباس البحر للسيدات المتدينات أو في الصرامة المبالغ بها في إدارة ملف الهجرة. إنه يلعب دوره في الحفاظ على غنائم الأصوات من اليمين المتطرّف.

يسعى ماكرون إلى الإمساك بمجمل الملفات من دون أن يحرم مشرفيها المباشرين الحقّ في المساهمة الفعلية في إدارتها

أغلب الوزراء الجدد أتوا من اليسار المعتدل، ولكن أبرزهم هو وزير التربية والشباب، الأستاذ الجامعي السنغالي الأصل، باب ندياي، الذي يجلس على أنقاض وزير تبنّى طروحات اليمين المتطرّف، واستعمل مفرداته. وهذه الوزارة تعد مفتاحية في مرحلةٍ تتقدّم فيها المفردات الإقصائية، وتلعب التربية دوراً مهماً في حصر انتشارها. وُيجمع منتقدو ماكرون على أنه قد أوقع ندياي في فخٍ ستكون الاستقالة السريعة هي سبيله للخروج منه، وهو الآتي من الأوساط اليسارية المثقفة التي تلفظ كل مفردات الإقصاء، وتنفتح على جمهورية المواطنة المتخيلة. لكن من يعرف ندياي ويقرؤه يتوقع أنه لن يقبل بدور ثانوي، وسيترك (إن سمح له) أثراً مهماً في أداء وزارة تكوين جيل المستقبل.

من المؤكد أن ماكرون لا يريد أن يلعب رئيس حكومته أي دور سياسي بارز يشكل له ظلاً. السيدة بورن تفي بغرض الصرامة والعمل الدؤوب، من دون أي طموحات تذكر. وربما سيكون دورها الأول تحقيق التعايش في حكومتها بين من يؤمن بفرنسا المتعدّدة المنفتحة، كوزير التربية الجديد، ومن يتبنّى، ولو جزئياً، بعض سرديات اليمين المتطرّف، كوزير الداخلية القديم/ الجديد.