التصوّرات الإيرانية للتحوّلات الإقليمية الجديدة

02 مارس 2025
+ الخط -

تعرّض النفوذ الإيراني الإقليمي لضربات قاسية وشديدة في العامَين الماضيَين، منذ الحرب الإسرائيلية على غزّة، مروراً بالضربات القاسية التي تعرّض لها حلفاء طهران، بخاصّة حزب الله وبشّار الأسد، وصولاً إلى عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وما يحمله هو وفريقه من اتجاه تصعيدي، يبدأ بخنق إيران اقتصادياً، ويمرّ بإضعاف نفوذها في العراق، وقد يصل إلى مستوى الضربة العسكرية القاسية.
يتمثّل السؤال المهم في مواقف النخب السياسية الإيرانية واتجاهاتها في إدراك الواقع الجديد وتحليل التأثيرات الاستراتيجية على الأمن القومي الإيراني. خلال الحوارات واللقاءات والتصريحات المختلفة، نجد أنّ موقف الاتجاه المحافظ في طهران يراوح بين مستوى الإنكار ورفض التعرّض لهزيمة إقليمية، ويرى أنّها مرحلة مؤقتة ولن تدوم طويلاً، وبين مستوى محاولة التكيّف والتأقلم مع المتغيّرات الجديدة وتخفيف حجم الخسائر السياسية، وربّما الجملة المفضّلة التي تسمعها من سياسيين إيرانيين في محافل فكرية وسياسية عديدة هي: "ننتظر ونراقب ما الذي سيحدُث، سواء على صعيد سورية أو على صعيد المنطقة أو العراق"، وتجد هنالك قناعة لدى سياسيين إيرانيين عديدين بأنّ تركيا اليوم ستواجه تحدّيات كبيرة كانت تواجهها إيران خلال المرحلة السابقة.
أمّا سقوط نظام بشّار الأسد، وتبرير وقوف طهران إلى جانبه في الفترة الماضية، فيفسّره هذا الاتجاه بأنّه مرتبط بمواجهة مؤامرة صهيونية أميركية، لكن الأسد (في العام الأخير من حكمه) بدأ يأخذ مسافةً كبيرة من طهران، ولم يعد يسمع للإيرانيين، ويفضّل التعامل مع الروس. ولما بدأ الهجوم عليه من هيئة تحرير الشام لم يقاتل جيشُه، ولم يكن بوسع المليشيات الموالية لطهران أن تقاتل أو تدافع عن نظام بات في مرحلة الانهيار المُحقّق، فهي معركة خاسرة.
وبالرغم من الإقرار بخسارة نظام الأسد، تقرّ نخبٌ سياسيةٌ إيرانية (محافظة) بأنّ خسارة سورية استراتيجية لطهران، لكن الأسد نفسه كان عبئاً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً على إيران، وأدخلهم في مشكلاتٍ إقليمية عديدة، ولم يكن هذا التدخّل موضع ترحيب لدى الرأي العام الإيراني، ومن ثم، ليست المسألة خسارةً مطلقةً، بل نسبية، ويمكن أن تشكّل فرصةً لتحالفات إقليمية تدخل فيها طهران مع أنقرة والسعودية لضمان الأمن الإقليمي، في مواجهة التغوّل الإسرائيلي.
الخشية الكبيرة لدى طهران اليوم من أن يكون العراق، وحتى إيران نفسها، هما الحلقة المقبلة في اللعبة الإقليمية. ويرى سياسيون إيرانيون أنّ خسارة سورية أو حتى إضعاف حزب الله لا يمثّلان تهديداً وجودياً لإيران (Existential Threat)، لكنّهم يعدّون استهداف طهران بأيّ ضربة عسكرية بمثابة تهديدٍ حقيقي، والعقوبات الاقتصادية إذا وصلت إلى حدّ خنق إيران بالكامل، كما الحال عند تطبيق العقوبات الجديدة، أمر يعني أنّ إيران ستكون مستعدّة لخوض حرب، وفي حال كانت الضربة لإيران من القواعد الأميركية العشر في المنطقة، لن تتردّد طهران في مهاجمة هذه القواعد، التي انطلقت من إحداها الطائرات التي استهدفت قاسم سليماني، الزعيم التاريخي لفيلق القدس وقتلته، قبل خمسة أعوام.
إلى أيّ مدى طهران مستعدّة لمثل هذه الحرب العسكرية، في وقتٍ ترى فيه تقارير أمنية غربية أنّ الضربة الإسرائيلية أخيراً قضت بصورة كبيرة على منظومة الدفاع الجوي الإيراني؟... ينكر المحافظون الإيرانيون ذلك، ويحذّرون من أن قوّة إيران الحقيقية لم تُختبَر بعد.
في الجهة الأخرى، تحاول الشخصيات السياسية المقرّبة من التيّار الإصلاحي أن تتبنّى مقاربةً براغماتيةً، ذات أبعاد متعدّدة، سواء على صعيد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان ونائبه للشؤون الاستراتيجية جواد ظريف، اللذين يحاولان تجنّب المواجهة مع إدارة ترامب على الصعيد الدولي، من خلال مقايضة المصالح الاقتصادية بمفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني، وعلى الصعيد الإقليمي بالتعاون مع السعودية وتركيا لبناء شبكة مصالح استراتيجية إقليمية، وعلى الصعيد الداخلي الإيراني باستثمار ما يحدث لمواجهة التيّار المحافظ وتحقيق انتصارات سياسية داخلية عليه.
واضح أن ما تمرّ به إيران اليوم مرحلة جديدة بالكلّية، ليس على صعيد إقليمي أو حتى دولي فقط، بل على صعيد المعادلة الداخلية، بعدما تصاعدت الشقوق الداخلية والانقسامات حول شرعية النظام والكلفة التي دفعها بسبب السياسات الإقليمية، فضلاً عن بروز نماذج إسلامية متنوّعة ومتعدّدة في المنطقة، أكثر براغماتية وواقعية وتنوعاً من النموذج الإيراني.

محمد أبو رمان
محمد أبو رمان
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي في معهد السياسة والمجتمع.