الترقي .. عمل جاد لتبديد الاستبداد

الترقي .. عمل جاد لتبديد الاستبداد

04 ديسمبر 2020
+ الخط -

طلب الترقي في الأمم سنن ماضية قائمة بمسالك العلم والعمران، هادفة من خلال ذلك إلى السعادة أو الشقاء؛ تصل إلى الإسعاد، ما هدف العلم والعمران إلى عدل وسداد وصلاح ورشاد؛ وتبلغ من الإشقاء مبلغه إذا هدفت الى زخرف وزينة وقدرة وهيمنة عليلة لا تغني عن مصير مشؤوم وخراب محتوم "هذا مبلغ الترقّي الذي وصلت إليه الأمم منذ عُرِف التاريخ.. والآثار المشهودة لا تدلُّ على أكثر من ترقّي العلم والعمران؛ وهما آلتان كما تصلحان للإسعاد، تصلحان للإشقاء، وترقِّيها هو من سُنَّة الكون التي أرادها الله تعالى لهذه الأرض وبنيها، ووصف لنا ما سيبلغ إليه ترقّي زينتها واقتدار أهلها بقوله عزَّ شأنه: "حتى إذا أخذت الأرض زُخرفها وازَّينت وظنَّ أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تَغْنَ بالأمس".

الاهتمام الكوني بالإنسان والإنسانية هو حركة حرية وأمان يبلغه الإنسان، فيؤمن كل أمره حياة وشرفا وقاية وأملا، محافظا على عائلته وماله. وفي ذلك كله يشمل، بإحساساته تلك، عالم الإنسانية بأسرها، وكأن قومه البشر ووطنه الأرض ومسكنه، حيث يجد حريته، إنه شأن الإنسان الراقي الذي يخرج عن أسرى الاستبداد الذي لا يملك نفسه، فهو في كنف الاستبداد يعيش وكأنه في دار مجزرة، إما ذابح أو مذبوح، بينما الراقي المناهض لكل استبداد كأنه يملك الدنيا بما يحقق من معنى إنسانيته وحريته، ومعنى أهمية حياته في حياة عزيزة كريمة؛ ... إنَّه يبلغ بالإنسان مرتبة أن لا يرى لحياته أهميةً إلا بعد درجات، فيهُّمه أملاً: حياة أمِّه، ثمَّ امتلاك حريته، ثمَّ أمنه على شرفه، ثمَّ محافظته على عائلته، ثمَّ وقايته حياته، ثمَّ ماله، ثمَّ، وثمَّ .. وقد تشمل إحساساته عالم الإنسانية كلِّه، كأنَّ قومه البشر لا قبيلته، ووطنه الأرض لا بلده، ومسكنه؛ حيث يجد راحته، لا يتقيَّد بجدران بيت مخصوص يستتر فيه ويفتخر به كما هو شأن الأُسراء.. الأسير... لا يملك حتى نفسه، وغير أمينٍ حتى على عظامه في رمسه، إذا وقع نظرُه على المستبدِّ أو أحد من جماعته على كثرتهم يتعوَّذ بالله، وإذا مرَّ من قرب إحدى دوائر حكومته أسرع وهو يكرر قوله: "حمايتك يا ربّ، إنَّ هذه الدار، بئس الدار، هي كالمجزرة كلُّ من فيها إما ذابح أو مذبوح".

قد يبلغ ترقّي التركيب في الأمم درجة أنْ يصير كلُّ فردٍ من الأمَّة مالكاً لنفسه تماماً، ومملوكاً لقومه تماماً

وأمم الرقي والترقي تعرف لكل مسالك اللذة المعنوية والروحية المرتبطة بالعلم والمجد والبذل والرشد والرأي الصائب، فتشكل إنسان الترقي الذي هو بالضرورة على النقيض من أسير الاستبداد الذي لا يبحث إلا عن طعام وشراب وشهوة؛ المادة المتمثلة في الأجسام لا تعرف لملذّات ترقي الروح التي ترقى بالإنسان على سلم الرحمة والإحسان، وكأن له وظيفة كبرى ممتدة في ترقي مجموع البشر "وقد تنال تلك الأمم حظّاً من الملذَّات الحقيقية التي لا تخطر على فكر الأُسراء، كلذَّة العلم وتعليمه، ولذَّة المجد والحماية، ولذَّة الإثراء والبذل، ولذَّة إحراز الاحترام في القلوب، ولذَّة نفوذ الرأي الصائب.. إلى غير هذه الملذَّات الروحية... ويرى اللذَّة في التجديد والاختراع، لا في المحافظة على العتيق، كأنَّ له وظيفة في ترقّي مجموع البشر. وأمَّا الأسراء والجهلاء فملذَّاتهم مقصورة على مشاركة الوحوش الضارية في المطاعم والمشارب واستفراغ الشهوة، كأنَّ أجسامهم ظروف تُملأ وتُفرغ ... بحث الترقّي في الكمالات بالخصال والأثرة، وبحث الترقّي الذي يتعلق بالروح؛ أي بما وراء هذه الحياة، ويرقى إليه الإنسان على سُلَّم الرَّحمة والحسنات.

الترقّي في القوة بالعلم والمال يتميَّز على باقي أنواع الترقّيات تميُّز الرأس على باقي أعضاء الجسم

إنسان الترقي مستقلٌّ في ذاته، وكأنه المستغني عن العالمين، إلا أنه، في الوقت نفسه، عضو في جسم حي في العائلة والأمة والبشر، فيصير الفرد في الأمة مالكا نفسه مستقلا ومملوكا لقومه، في علاقة فريدة ممتلئة بوعي الذات والوعي الجمعي بالأمة والوعي بالموقف في أمته وبأمته "وقد يبلغ الترقّي في الاستقلال الشخصي مع التركيب بالعائلة والعشيرة، أن يعيش الإنسان معتبراً نفسه من وجه غنياً عن العالمين، ومن وجه عضواً حقيقياً من جسمٍ حيٍّ هو العائلة، ثمَّ الأمَّة، ثمَّ البشر.. وقد يبلغ ترقّي التركيب في الأمم درجة أنْ يصير كلُّ فردٍ من الأمَّة مالكاً لنفسه تماماً، ومملوكاً لقومه تماماً. فالأمَّة التي يكون كلُّ فردٍ منها مستعداً لافتدائها بروحه وبماله، تصير تلك الأمَّة بحجَّة هذا الاستعداد في الأفراد، غنية عن أرواحهم وأموالهم".

إنسان الترقي يعد نفسه لدور فعال ووظيفة معينة يتمتع بالصلاحية والفاعلية في كل دوائر نشاطه وانتمائه؛ إن معنى الإنسان في قيمته وجوهر وظيفته وفاعلية دوره ليس عالةً على غيره، ولا عاجز عن فعله؛ وفاعليته هي معنى الحياة والدور فيه، وإلا استحق الموت، وكان حقيرا مهانا. إنه إنسان الترقي؛ إنسان الفاعلية في الدور والوظيفة.. وكما أنَّه لا بدَّ لكلِّ مرفقٍ من وظيفةٍ معينة، يصلح لها وإلا كان بناؤه عبثاً يستحقُّ الهدم، كذلك أفراد الإنسان لا بدَّ أن يعدَّ كلٌّ منهم نفسه لوظيفة في قيام حياة عائلته أولاً، ثمَّ حياة قومه ثانياً.. ولهذا يكون العضو الذي لا يصلح لوظيفة، أو لا يقوم بما يصلح له، حقيراً مهاناً. وكلُّ من يريد أن يعيش كَلاً على غيره، لا عن عجزٍ طبيعيٍّ، يستحقُّ الموت لا الشفقة....

إنسان الترقي مستقلٌّ في ذاته، وكأنه المستغني عن العالمين، إلا أنه، في الوقت نفسه، عضو في جسم حي في العائلة والأمة والبشر

الترقّي في أصول الحكومات المنتظمة التي تشكل سدّا منيعا، وعملا قويما، وتأسيسا متينا مكينا، في مواجهة الاستبداد والفساد؛ ونفاذ القانون وسيادته وقوة التشريع الذي يكون في حوزة الأمة ومحاسبة للسلطة ومراقبة لسير تلك الحكومة في حركتها وإنجاز سياساتها؛ شبكة من الأصول لفاعلية الحكم الرشيد وإرساء معالمه في إطار التمكين السياسي في مواجهة كل مسالك الاستبداد ومكافحة كل أشكال الفساد. إنها الحكومات المنتظمة الضامنة لارتقاء الأفراد والمجتمعات ".. الترقّي في القوة بالعلم والمال يتميَّز على باقي أنواع الترقّيات السالفة البيان تميُّز الرأس على باقي أعضاء الجسم، فكما أنَّ الرأس بإحرازه مركزية العقل، ومركزية أكثر الحواس، تميّز على باقي الأعضاء واستخدمها في حاجاته، فكذلك الحكومات المنتظمة يترقّى أفرادها ومجموعها في العلم والثروة، فيكون لهم سلطانٌ طبيعي على الأفراد أو الأمم التي انحطَّ بها الاستبداد المشؤوم إلى حضيض الجهل والفقر.. وأنفع ما بلغه الترقّي في البشر؛ هو إحكامهم أصول الحكومات المنتظمة ببنائهم سدّاً متيناً في وجه الاستبداد، والاستبداد جرثومة كلِّ فساد، ولا نفوذ فوق قوة الشَّرع، والشَّرع هو حبل الله المتين. وبجعلهم قوَّة التشريع في يد الأمَّة، والأمَّة لا تجتمع على ضلال. وبجعلهم المحاكم تحاكم السُّلطان والصُّعلوك على السَّواء، فتحاكي في عدالتها الكبرى الإلهية. وبجعلهم العمال لا سبيل لهم على تعدّي حدود وظائفهم، كأنهم ملائكة لا يعصون أمراً، وبجعلهم الأمَّة يقظة ساهرة على مراقبة سير حكومتها، لا تغفل طرفة عين، كما أنَّ الله عزَّ وجلّ- لا يغفل عمَّا يفعل الظالمون. 

خلاصة القول على ما يؤكد عبد الرحمن الكواكبي "إنَّ الأمم التي يُسعدها جدُّها لتبديد استبدادها تنال من الشَّرف الحسّي والمعنوي ما لا يخطر على فكر أُسراء الاستبداد". الأمم في جدّيتها وفاعلية مسلكها تيضمن تبديد استبدادها؛ فتنال الترقّي والشرف والمكانة المادية والمعنوية بما لا يمكن أن يتخيله فكر عفن سُجن فيه أسرى الاستبداد وألفوه؛ لا يتخيّلون غيره، ولا يخطر ببالهم فكر الترقي الحر والفعَال المناقض لكل استبداد واستعباد.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".