الترامبية نتيجةً لأزمة النظام الديمقراطي والقيم الليبرالية

11 فبراير 2025
+ الخط -

ليست الترامبية مجرّد شخصية شعبوية يمينية مثيرة للجدل أو نهج سياسي مرتبط باليمين الأميركي أو الحزب الجمهوري؛ بل هي انعكاس لتحولات أعمق في البنية السياسية والاجتماعية للديمقراطية الغربية، فهي، في صميمها، تمثّل احتجاجاً ونقداً للنظام الليبرالي العالمي الذي ساد بعد الحرب الباردة، وتطرح نموذجاً بديلاً يقوم على الشعبوية ورفض العولمة وتقويض التعددية السياسية والثقافية.

عندما جاء ترامب في ولايته الأولى ظنّ بعض المتابعين والمتحمسين للقيم الديمقراطية - الليبرالية أنّ ذلك إخفاقة صغيرة أو نزوة عابرة في مسار الفكر السياسي الديمقراطي سرعان ما تزول، لكن إعادة انتخابه، بالتزامن مع صعود الأحزاب والقيادات الشعبوية في دول عديدة، مؤشّرٌ على أنّ النظام الديمقراطي نفسه أصبح في حالة من الأزمة الشديدة، وبات يعاني من اختلالات وأمراض عديدة، وأنّ نظرية نهاية التاريخ بوصف هذا النظام ذروة ما يمكن أن يصل إليه الفكر البشري لم تعد قادرة على الصمود، حتى لدى المفكر السياسي الذي صاغها، فرانسيس فوكوياما!

وعلى ذكر فوكوياما، فقد كتب هو نفسه كتاباً مهماً بعنوان "الهوية: مطلب الكرامة وسياسة الضغينة" يجعل من الترامبية نتيجة ومتغيراً تابعاً لأزمة هوية أعمق في الغرب، جرّاء العولمة والهجرة وتغير القيم الاجتماعية، إذ يستغل ترامب وأصحاب هذه الأفكار اليمينية هذا القلق على "الهوية" ويجذب إلى هذا الخطاب شرائح اجتماعية واسعة، وبدلاً من أن يصبح الاهتمام الرئيس والخطاب الأميركي متجملاً في الحديث عن حقوق الإنسان والحقوق العالمية يصبح الموضوع الرئيس هو سياسات الهوية، لكن ذلك لم يكن ليحدُث لو لم تكن الديمقراطية الليبرالية نفسها تعاني من أزمة ثقة حقيقية في المؤسسات السياسية والقانونية، سواء بسبب الفساد أو ضعف الأداء أو الفجوة المتزايدة بين النخب السياسية والجماهير، فترامب، وفقاً لفوكوياما، لم يخلق الأزمة، هو نتاج هذه الأزمة، مقدماً نفسه زعيماً مناهضاً للنخبة وممسكاً بقيم المجتمع المحافظ!

كشفت الحرب على غزّة الغطاء عن العيون، وأظهرت حجم الهشاشة في الوجه الناعم لأميركا ولدول غربية عديدة

ومعروف أنّ ترامب جزء من الظاهرة الشعبوية في السياسات الديمقراطية والليبرالية الغربية، وإن كان يمثّل أخطر نموذج فيها لما يقدمه من إلهام للحركات والأحزاب اليمينية الأخرى، التي لديها مشكلة مع القيم الديمقراطية نفسها، وربما جنوح الأحزاب الليبرالية الغربية في كثير من الأحيان إلى التطرف في القيم والثقافة الاجتماعية وسوقها المؤسّسات الدولية معها، في قضايا مرتبطة بالجندرية والحرية الاجتماعية وتأثرها بالعديد من النظريات الاجتماعية بهذا الخصوص، كان سبباً رئيسياً ودافعاً لإثارة القلق الشديد لدى العائلات والأسر والشرائح المحافظة في هذه الدول للقبول بالخطاب الشعبوي - الهوياتي وصولاً إلى حماية المجتمع من خطر التفكك والقيم التقليدية من الانهيار، بعد أن أصبحت مؤسسات دولية ومحلية عديدة في دول كثيرة تسعى إلى فرض هذا النمط من الثقافة في التربية والتعليم والإعلام والمجتمع المدني، فبدت انتفاضات تيارات وخطابات الهوية رداً على ذلك وحماية للقيم الاجتماعية.

في الخلاصة، ليست الترامبية مسألة أو فكرة عابرة، بل هي حركة احتجاج بنيوية داخلية أخذت خطاً متطرّفاً ضد المؤسّسات السياسية المحلية والدولية وضد القيم الليبرالية، اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، وتعكس حالة القلق لدى شرائح اجتماعية كبيرة من هذا الخطاب الدولي والمحلي؛ وهي الحالة التي استثمرتها نخب يمينية سياسية تجيد العزف على لحن الهويات الوطنية وتهديدها وحماية المجتمع والدولة منها.

هذا على صعيد "الأزمة الديمقراطية الداخلية" في دول غربية عديدة، لكن ماذا على صعيد القيم الديمقراطية والليبرالية العالمية، التي كان للولايات المتحدة دور كبير في تبنيها وترويجها والدفاع عنها، وهو الأمر الذي انعكس على المؤسسات الدولية والعالمية والغربية؟ ما هو حجم الضرر والانهيار الذي أحدثه زلزال الترامبية عليها؟ تجاوزوا قضية وكالة التنمية الأميركية والمساعدات التي كانت مربوطة بهذه القيم في أحيان كثيرة، أقصد كيف يمكن أن يكون هنالك إيمان أو قناعة بهذه القيم عالمياً بعدما رأى الناس هذا الخطاب والسلوك من زعيم الدولة الديمقراطية الكبرى؛ انحياز للأنظمة الدكتاتورية، تجاوز لكل معايير حقوق الإنسان الدولية، الهجوم على المحكمة الجنائية الدولية وعلى منظمات حقوق الإنسان، المجاهرة بالحديث عن التهجير والتطهير العرقي في فلسطين، وتجاهل الأفكار أو القيم الديمقراطية في ترسيم علاقة أميركا مع العالم، الاستهتار بالمؤسسات الدولية والقيم الديمقراطية، ماذا يمكن أن يحدث أكثر من هذا التدمير، بل النسف لكل الأفكار والقيم والثقافات التي زعمت الولايات المتحدة الإيمان بها وترويجها عقوداً طويلة مضت.

ما يحدث اليوم انهيار كامل وشامل وجوهري لكل السياسات والدعاية والخطابات الأميركية عن الديمقراطية والحرية في العالم

لأميركا وجهان في العالم؛ الوجه الحقيقي الواقعي، الذي يطلق عليه القوة الصلبة، وهو الأكثر نفوذاً وتأثيراً في بناء السياسة الخارجية الأميركية، وهو الذي نراه في الانحياز الأميركي لإسرائيل، والذي يمثّل الغرب بالنسبة لكثيرين من العرب والمسلمين الذين طالما شعروا بالمرارة والظلم من هذا الانحياز الفاضح للمصالح الغربية عموماً، ولإسرائيل التي نظر إليها الساسة الأميركيون امتداداً للمصالح الأميركية. أما الوجه الآخر الذي تفكك وانهار تماماً مع الترامبية، بخاصة في نسختها الثانية، فهي القيم الليبرالية والديمقراطية وادّعاء الاهتمام بحقوق الإنسان والحريات ونشر الديمقراطية والمساعدات الاقتصادية، أو ما يطلق عليه جوزيف ناي "القوة الناعمة"!

كشفت الحرب على غزّة الغطاء عن العيون، وأظهرت حجم الهشاشة في الوجه الناعم لأميركا ولدول غربية عديدة، وأحدث الموقف الأميركي من حرب الإبادة صدمة كبيرة ليس فقط في الرأي العام والشارع العربي والإسلامي، بل حتى العالمي، ولكن حتى لنخب سياسية عربية كانت تعتقد أنّ الإدارة الأميركية ستتمسّك بورقة التوت، لكنها لم تفعل. ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض فإنّ ما يحدث اليوم انهيار كامل وشامل وجوهري لكل تلك السياسات والدعاية والخطابات الأميركية عن الديمقراطية والحرية في العالم.

وعلى صعيد النظرية السياسية نفسها، ما أحدثته الترامبية زلزال حقيقي، فمنذ الخمسينيات برز حقل أطلق عليه في الأدبيات النظرية "التنمية السياسية"، وكان يقوم على دور الولايات المتحدة والغرب في نشر الديمقراطية والقيم الليبرالية في العالم، وعملت الأوساط البحثية والأكاديمية الأميركية كتفاً بكتف مع الدوائر السياسية في هذا المجال، وانطلق الباحثون في شتى أصقاع الأرض لدراسة الحكومات والدول الجديدة المنبثقة بعد الحرب العالمية الثانية، لتأطير نظريات حول انتقال هذه الدول إلى النموذج الديمقراطي الليبرالي بوصفه النموذجي لتطور الدول، لكن لا أحد اليوم، حتى في الأوساط البحثية، يستطيع أن يدّعي أنّ لحقل التنمية السياسية، الذي أسسه الباحثون الأميركيون، أيّ شرعية أو مصداقية، بل إنّ ما يحدث يرد الاعتبار بقوة للنظرية النقدية، ولنظريات التبعية والتمييز المنهجي بين مصالح الدول الغربية وسياساتها الحقيقية وبين العالم الثالث (كما أطلق عليه)، الذي طالما وقع تحت سطوة المركزية الغربية، ليس فقط في المصالح السياسية والاقتصاديةـ بل حتى نظريات المعرفة وحقول البحث العلمي.

محمد أبو رمان
محمد أبو رمان
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي في معهد السياسة والمجتمع.