الترامبية الجديدة
الرئيس الأميركي ترامب في البيت الأبيض في واشنطن (11/2/2025 Getty)
نجد من حولنا، وبتزايد متفاقم، ميولاً واضحة تدلّ على انخراط بعض العقول، إن جاز التعبير وحددنا ربط هذا المسمّى بالفطنة، باعتناق النظريات الترامبية المستجدّة. وعلى الرغم من تعقيد المشهد الانتخابي الأميركي، إلا أن من الصعب وصمه بضعف القدرة التمثيلية وتهافت ديمقراطيته. وبناءً على حسن النية التحليلية هذه التي تستند إلى الحزم بديمقراطية الانتخابات وتمثيلها الوفي والوافي لرغبات المقترعين، وجب علينا وعلى سوانا إعادة التفكير في الديمقراطية، ليس للتخلص منها أو الحدّ من اعتبارها النظام الأنسب لحياة كريمة بالتأكيد، بل لإعادة انتاجها بناءً على تجربة ثرية قد طالت، بحلوها وبمرّها، دون أن تجرى عليها تعديلات أو إعادة تفكير إيجابية التوجه بهدف الحفاظ عليها وحمايتها من التوقف أو، وهو الأكثر احتمالاً إن استمر الحال على ما هو عليه، من التقهقر والانحسار والانهيار.
لقد انتخب الأميركيون مطوّراً عقارياً ناجحاً ومقدماً فاشلاً، أو يكاد، لبرامج تلفزيون الواقع المتهافتة. والتشكيك في هذه الانتخابات، من حيث شرعيتها أو شفافيتها، لا يجوز لكل من آمن بالديمقراطية منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وحتى يومنا هذا. بالمقابل، لا يعني قبول هذه النتائج، على الرغم من وقعها السيّئ على المعنيين بها مباشرة خصوصًا، وعلى الإنسانية عمومًا، التسليم بأن يمتنع العقل الواعي عن طرح الأسئلة المشروعة عن مآل هذه الممارسة وسبل حمايتها، إن كان الهدف الإنساني الأعمّ هو المحافظة على الايمان بتبنيها وبالترويج لها عربيًا، وباستمرارها كونيًا.
الدمار الرمزي، وربما الفعلي، المنتظر من هذا الاختيار "الديمقراطي" سيشمل في ما يشمله الشعب الأميركي المعني مباشرة، ويضاف إليه شعوب بقية أطراف المعمورة، إن بشكل مباشر أو بالشكل غير المباشر. هذا الدمار غير مرتبط أساساً بالفعل العسكري الذي أوضحت الإدارة الجديدة الابتعاد عنه وتفضيل الحلول "السلمية" عليه، بعدما كانت سياسات العم سام تميل إلى إبراز الأنياب وإعمال الأظافر. وبالتالي، يجوز الاعتقاد، مع جرعة مخففة من الأمل، بتوقف الحرب العسكرية المباشرة التي خلّفت مئات الآلاف من الضحايا من بين الفيتناميين والكوريين والعراقيين والأفغان والأميركيين اللاتينيين، وسواهم من أهل الكرة الأرضية الذين كانوا معنيين بشكل غير مباشر أو بشكل موارب بحروب أميركا "الديمقراطية". بالمقابل، فقد بدأت حروبٌ من نوعٍ آخر إماتته تتجاوز الأجساد لتتناول الأرواح والأخلاق والمعتقدات الإنسانية، وحتى الدينية إن شئنا التوسع. وتعتمد هذه الحروب على تعزيز شريعة الغاب الاقتصادية، وبالتالي الإنسانية، التي تستند إلى قواعد الليبرالية المتوحشة بحدود يُقرّرها مهرجون يحملون فكرًا خطيرًا وتصورًا مشوهًا للمصالح المالية التي تأكل/ أو تهدم الأخضر واليابس من أمامها بهدف الوصول إلى تحقيق ما تصورته أهدافاً مشروعة لها ومن يعتنقها بوعيٍ ومن يقع بين براثنها بفقدان هذا الوعي.
انتخب الأميركيون مطوّرًا عقاريًا ناجحًا ومقدمًا فاشلًا، أو يكاد، لبرامج تلفزيون الواقع المتهافتة
وبعد أن حفلت ولاية دونالد ترامب الأولى (2017 ـ 2021) بما طاب من الهنّات ومن الاستعراضات ومن الفضائح، حان موعد الانتخابات التي أطاحته ومشروعه. ولقد تصوّر أصحاب القلوب الطيبة أن ما عاشوه خلال هذه السنوات الأربع، ليس إلا مرحلة ظلامية وقد فاتت، وعليهم فتح صفحة جديدة. إلا أن الوعي البشري ليس بهذا المستوى الذي يسمح أو يساعد بالرجوع عن الخطأ. وعلى الرغم من هجوم أنصاره الوحشي على الكونغرس رفضًا لنتائج هزيمته حينها، وعلى الرغم من أكثر من ثلاثين ملف قضائي تمت إدانته في أغلبها، إلا أنه، بعد أن أُخرِجَ من الباب، عاد الى الدخول من الباب الواسع نفسه للبيت الأبيض بعد سنوات معدودات. وها هو يعود بالميول الاقتصادية والاجتماعية والدولية السابقة نفسها مع جرعة من "الخبرة" التي اكتسبها والتي حملته على البدء بتدمير منهجي للدولة العميقة وتحويل إدارته وملحقاتها إلى وكالة عقارية لا ترى أمامها إلا جداول الأرقام الرابحة التي ترمي إلى سلة المهملات كل ما له علاقة بالبيئة وبالعدالة الاجتماعية وبالحقوق الإنسانية وبالمساعدة بين الشعوب وبحقوق هذه الشعوب وباستقلال أراضيها.
من المُحرج أن يُراهن بعض ضحاياه الأساسيين، على نموذجه سذاجةً أو أنانيةً، وغالبًا ما تتكاتف الصفتان، متجاوزين ما يُعلنه، كما أترابه، صراحة عما يدور في عقولهم من مشاريع احتلال جزر وضم دول مستقلة وتهجير شعوب ومباركة حروب ـ يقوم بها غيرهم بمالهم وبسلاحهم ـ تسعى لإعلاء شأن الباطل الاقتصادي والتسلطي وإزهاق روح الحق الإنساني والأخلاقي. وما أعجب من ضحايا سابقين أو لاحقين، أو من منهم في غرفة الانتظار، الذين يُبدون إيمانًا مستندًا إلى انعدام تام أو جزئي في النظر، بمثل هذا النموذج بمجرد أن بعض رموزه ساندت قضاياهم لأهدافٍ محسوبة ولحسابات مستهدفة.
من أولئك الضحايا دول وكيانات سياسية تُبارك للإدارة الجديدة خطواتها الخارجية لمجرد أنها تحمل الجرعة نفسها التي تحملها من الكراهية لطرف سياسي ما. ومنهم، وهذا هو لبّ القصيدة اليوم، أفراد سوريون/ أميركيون، ليسوا سذّجاً بالتأكيد، فرحون لوصول السمسار العقاري وأصحابه إلى قمة العالم، على اعتبار أن بعض نوّابه قد ساندوا تحرير بلدهم الأم من طغيان الأسد. القضية العادلة تنهار وتصبح حسابات واهية إن راهن بعض أصحابها على الترامبية الجديدة.