Skip to main content
التحرّش ومحاربته
بيار عقيقي

تخرج سيدة أو امرأة إلى العلن، لتُخبرنا قصتها عن تعرّضها لتحرّش جنسي، في المنزل أو العمل أو المدارس والجامعات أو غيرها، فيخرج من يحاول إسكاتها بطرق عدّة، باسم "عادات المجتمع وتقاليده". لا يريد الداعي إلى صمت الضحايا أن تسمَع أصواتهنّ. ربما ينبغي أن يكون ضحية بنفسه أيضاً، ويحاول قمع ذاته عن التعبير عن مظلوميته، حتى يُدرك فداحة التحرّش وقسوته الجسدية والنفسية، وآثاره اللاحقة على حياة إنسان. التحرّش ليس سرقة ولا ضرباً ولا مطاردة في الشوارع، بل هو كل تلك العناصر معاً، وما يزيده إيلاماً منع الضحية من الحديث.

حسناً، لنعد قليلاً إلى الوراء بضع سنوات. لم يكن كثر منا يسمعون عن قضايا التحرّش، سواء بالنساء أو بالأطفال. دائماً ما تحاول بعض مجتمعاتنا العربية طمس أصوات الضحايا، بحجّة "الشرف والعار". هنا، ينمو جيلٌ حاقدٌ، غاضبٌ، مقموع، حزين، كاره، غير قادر على التعبير عن نفسه، في ظلّ القمع العائلي أولاً، ثم المجتمع ثانياً. وحين يتجرّأ ضحية على الصراخ، مطالباً بحقه، يصبح هو صاحب الجرم. الأمثلة كثيرة على امتداد دولنا العربية جميعها. 

في البداية، هناك أمرٌ على الجميع الاعتراف به: "التحرّش في مجتمعاتنا أكبر مما نتخيّل، ومعاقبة المجرم أمر لا يحصل". حين نعترف بهذه الفرضية يُمكن حينها الانتقال إلى المرحلة الثانية: "كيف نحمي ضحايا التحرّش، وكيف نبني شبكة أمان تمنع التحرّش مستقبلاً؟". يبدأ كل شيء في المنظومة الدولتية نفسها، عبر إقرار قوانين تخصّ العنف الأسري، وتشديد العقوبات بحقّ كل متحرّش، وإزالة العوامل العشائرية والقبلية والعائلية والاجتماعية والذكورية، وغيرها من التصنيفات التي تحمي المعتدي، أو تخفّف من وطأة جرمه. ثم، لا يُمكن اتهام الضحية بأنها سبب التحرّش. هل الأطفال، مثلاً، هم من يدعون الآخرين للتحرّش بهم؟ 

أما المرحلة الثالثة، فتبدأ بالتشديد تربوياً وتعليمياً، على أن "لا أحد أفضل من أحد جندرياً، وأن كل إنسان يتميّز بخاصية معيّنة يفيد بها نفسه ومجتمعه". ليست الفتاة الصغيرة مشروع والدة ما لم ترغب هي بذلك، ولا الفتى الصغير مشروع والد ما لم يرغب هو بذلك. الحرية في هذا السياق خير حامٍ لمجتمع يريد النمو بعيداً عن النفاق. الازدواجية المجرمة في التعامل مع البشر دمّرت بديهيات إنسانية كثيرة، فتسمع أحدهم في العلن يدعو إلى فعل الخير والصلاة والإيمان، وفي السرّ تراه يقوم بعكس ما يدعو إليه، من دون وجود من يحاسبه. هذا النوع من الكذب هو ما يستدعي إماطة اللثام عنه، حماية للمجتمع أولاً، ولأفراده المعرّضين للخطر النفسي والجسدي والعقلي ثانياً.

لا يمكن التغاضي عن التحرّش بالنساء والأطفال، واعتبارها "أمراً طبيعياً أو عادياً". صحيح أن بعضهم سيستغلّ هذا الأمر لإطلاق اتهاماتٍ كاذبة، لكن علينا فهم أن الكَذَبة يُكشفون سريعاً، سواء كانوا من مدّعي المظلومية أو ممّن ينفون تورّطهم في التحرّش. لا يجب إطلاقاً، لا أخلاقياً ولا إنسانياً، التقليل من أهمية ما تعاني منه النساء والأطفال في عالمنا الحالي. ومشروع الدفاع عنهم ليس منّة ولا دليل "أبوية"، بل هو تصحيح لأخطاء تاريخية في نشوء المجتمعات.

انظروا حولكم، تسمعون قصصاً كثيرة عن تحرّش والدٍ بابنته، وأستاذ بتلميذته، وربّ عمل بموظفة، وسائق سيارة أجرة بسيدة. ثم انظروا إلى ذواتكم، وردود فعلكم حول كيفية تعاطيكم مع هذه الأحداث. يحزن بعضهم دقائق، ويتابع حياته وكأن شيئاً لم يكن، وآخرون لا يبالون إطلاقاً. ليس المطلوب منا الشعور بالكآبة في هذه القضايا، بل العمل بدءاً من بيوتنا وصولاً إلى مجتمعنا الأوسع، بكل طريقةٍ ممكنة، لحماية ضحايا التحرّش والدفاع عنهم. لا يستقيم أي مشروع لتطوّر الإنسان، سوى من خلال فهم الإنسان الآخر وحمايته. وفي ذلك حماية لذواتنا ولمجتمعاتنا المستقبلية.