التاجر ترامب و"الزبون" السعودي

25 يناير 2025
+ الخط -

لم تُعقِّب الرياض على تصريحاتٍ للرئيس الأميركي دونالد ترامب يتطرّق فيها إليها، وعلاقات بلاده في عهده معها. ففي لقاء صحافي بثّته شبكة "سي أن أن"، ذكر ترامب أن المملكة المتحدة ستكون المحطّة الأولى في زياراته الخارجية، وهو أمر مفهوم نظراً إلى علاقة التحالف بين واشنطن ولندن. وسريعاً ما أشار بعدئذ إلى أنه يخطّط لزيارة السعودية، وقد ربط زيارة أكبر دولة نفطية، وذات الأهمية الكُبرى في الشرق الأوسط، بمدى استعدادها لشراء منتجات أميركية، وحدّد سعر هذه المنتجات بين 450 مليار و500 مليار دولار، وقال إنه سبق للرياض أن تعاقدت على شراء منتجات أميركية بمبلغ كبير كهذا، في أوّل زيارة له إلى الرياض خلال ولايته السابقة.

ومن الواضح أن الامتناع السعودي عن التعليق على تصريح مثير كهذا يعود، في المقام الأوّل، إلى السياسة المتحفّظة التي تتسم بها الدبلوماسية السعودية على الدوام، وإلى حرصها على النأي بالعلاقات مع الدولة العظمى عن التجاذبات الإعلامية، ولأن الرياض تتوقّع، من جهة ثالثة، تصريحات غريبة كهذه من ترامب الذي يكسر القواعد المعهودة في تصريحاته، بما في ذلك قواعد الصداقة، غير أنه، في نهاية المطاف، ينضبط بما تحدّده مؤسّسات بلاده التي تراعي إلى حدّ بعيد ضوابط العلاقة الاستراتيجية بين البلدين. وفي القناعة ان الرياض سوف تختار الوقت المناسب للرد على هذه التصريحات وبالأسلوب المناسب، وعلى الأغلب انه سوف يتم التعبير عن هذا الردّ بإجراءات وتحرّكات وليس بمجرد إطلاق تصريح أو إصدار بيان

ومع ما تقدّم كلّه، تكشف نظرة ترامب إلى السعودية أن تغييراً لم يطرأ بعد على تفكير الرجل في ولايته الثانية، وأنه لم يلحظ بدرجة كافية حيوية الحركة والتطوّرات المتنامية التي شهدتها علاقة السعودية بالمراكز الدولية في السنوات الماضية، بما يجعل واقع هذا البلد مختلفاً إلى حدّ كبير عن تصوّر ترامب له بحسبانه مُجرَّد "زبون" ثري مواظب على منتجات أميركية، وأن على هذا "الزبون" إظهار السخاء في مشترياته، وأن يقصد مصانع أميركا وشركاتها من دون سواها لتأمين احتياجاته، وألا يساوم طويلاً في بنود العقود الموضوعة من طرف المُنتِج. وواقع الحال أن فحوى تصريحات ترامب تكشف (ومنذ الأيام الأولى لولايته) عن المسار المعقّد، الذي سوف تتّجه إليه العلاقات السعودية (والعربية) معه، ومع أركان إدارته، إذ لا يضع الرئيس السابع والأربعون مصالح بلاده فحسب، كما يراها فوق أي اعتبار، بل إنه لا يولي أدنى اهتمام لمصالح الآخرين ورؤاهم، ويرى أن على الدول الأخرى تكييف سياساتها بما ينسجم مع مصالح بلاده. وقد أدى شيئاً من ذلك في مخاطبته كندا، وهي دولة كبيرة متطوّرة ومن ركائز العالم الغربي، وذلك قبل أن يخرج بتصريحاته المتعجّلة حول السعودية، متجاهلاً أن هذا البلد هو من يُحدِّد احتياجاته، ويعرف كيفية تأمينها، ويدرك المعنى الواسع لمفهوم التعاون بين الدول، والتبادلية في العلاقات، ناهيك عن مفاهيم السيادة واستقلالية القرارات، علاوة على السياسات الجديدة المتبعة في التوجّه نحو إنتاج مستلزمات حيوية، بدلاً من سياسات سابقة اكتفت باستيرادها.

لا يولي ترامب أدنى اهتمام بمصالح الآخرين ورؤاهم، ويرى أن على الدول الأخرى تكييف سياساتها بما ينسجم مع مصالح بلاده

وإذا كان ترامب يدرك بطريقته الخاصّة توزّع مراكز النفوذ في عالمنا وتنافسيتها، ويُحدِّد سياسات إدارته في ضوء ذلك، فإن الآخرين من ذوي الأهمية، ومنهم السعودية، يدركون خريطة التوازنات ومعادلات النفوذ في عالمنا، وينسجون علاقات بلادهم مع الدول في ضوء المصالح والمبادئ الوطنية، وهو ما يُرتِّب على ترامب وإدارته إظهار الوجه التنافسي لبلاده، بالمعنى العريض والإيجابي للتنافس، مع الدول الكُبرى، وإقامة أوجه التعاون مع الدول الإقليمية الكبيرة. وعلى سبيل المثال، إذا كان ترامب وإدارته يأخذون باهتمام فائق وتركيز عالٍ ما تمثّله كلٌّ من إيران وإسرائيل في منطقة الشرق الأوسط من وزن ومن تأثير، فالصحيح أن السعودية وتركيا ومصر تمثّل قوىً راسخةً وصاعدةً في المنطقة، وهو ما تدركه تلّ أبيب وطهران، بانتظار أن يصل هذا الإدراك إلى صانعي القرارات في واشنطن، ومغادرة الاعتقاد بأن هذه الدول هي مُجرَّد مستهلكةٍ ومتعطّشةٍ لمنتجات أميركا من دون سواها من الدول، إذ إن الدول الثلاث إمّا منتجة أو تسير بصورة حثيثة نحو إنتاج المستلزمات الحيوية (بما فيها الدفاعية) بالاعتماد على الذات وبالتعاون مع دول صديقة.

في اللقاء الصحافي نفسه لترامب، وبخصوص السعودية أيضاً، قال بعبارات سريعة، إن المملكة سوف تمضي في التطبيع مع إسرائيل. لم يحدّد ما إذا كان ذلك قريباً أو آجلاً، بيد أنه أعرب عن ثقته بما يشبه "حتمية" انضمام الرياض إلى "المسار الإبراهيمي"، وينسى الرجل أن الرياض لطالما اعتبرت أن التطبيع يتحقّق نتيجة إقرار تلّ أبيب بحقّ شعب فلسطين في أرضه، وفي إقامة كيانه الوطني المستقل، وهو فحوى مبادرة السلام العربية التي تقدّمت بها الرياض في العام 2002، خلال اجتماعٍ للقمّة العربية في بيروت، ويتناسى ترامب، شأن ساسة كُثر في واشنطن، أن الحرب الوحشية التي شنّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزّة قد أعادت إظهار الوجه العنصري والمتوحّش للدولة العبرية، وأنها أثبتت مُجدَّداً أن خياراتها تنعقد حول الإبادة والاستئصال، لا باتجاه السلام، وهو ما ينعكس في مواقف دول عديدة، ومنها السعودية، ويُحدِّد خطواتها المستقبلية. ويحسن بترامب، قبل إطلاق تأكيداته بشأن التطبيع، أن يضغط على أصدقائه في تلّ أبيب كي يتوقّفوا عن نهجهم المدمّر، حين يعملون لنقل الحرب إلى الضفة الغربية المحتلّة، وربّما يحتاج ترامب قبل ذلك إلى الضغط على أركان إدارته كي يعتنقوا خيار السلام في الشرق الأوسط، بدل أن يردّدوا فِكَر الوزيرَين الإسرائيليَين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، كما هو حال السفير المرشّح إلى تلّ أبيب، مايك هاكابي، والمندوبة المرشّحة إلى الأمم المتحدة إليز ستيفانيك، وكلٌّ منهما يبدو مُجرَّد بوق لإسرائيل التوسّعية المتطرّفة، ولا يمثّلان أميركا أولاً.