البكاء في طهران
تُحصي إيران خساراتها، وهي كثيرة منذ اغتيال حسن نصر الله، وفادحة منذ هروب بشّار الأسد، وكان في ظنّها أن المعادلات التي أنشأتها في المشرق العربي قائمة إلى يوم الدين، حيث التغلغل يتحوّل نفوذاً، فسيطرة على مفاصل السلطات والمجتمعات هناك، وبذلك تُفاوِض الغرب على ملفّاتها، من موقع إقليمي لا وطني، ولا بأس لو تحوّلت تلك الدول مُجرَّد أوراق على الطاولة.
إلا أن ما أغفلته إيران أن ما ينطبق على الدول، على هشاشتها وضعفها، لا ينطبق بالضرورة على مجتمعاتها، وهي متعدّدة، ولن تستسلم رغم ضعفها، والأهم أن لديها أجنداتها التي وإنْ تقاطعت اليوم أو أمس مع خطط طهران، إلا أنها (أجنداتها) مختلفة، وتتوخّى مصالح شعوبها أولاً، ومن تلك حركة حماس الفلسطينية، التي عاب عليها مستشار الرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية، محمّد جواد ظريف، في منتدى دافوس، أنها كانت تعمل من أجل مصالحها الخاصّة (!)، أي إنها تمرّدت على الدور الوظيفي الذي أُريد إيرانياً منها، وهو أن تكون أداة، وفي هذا تغافل ينمّ عن سذاجة من رجل يشغل منصباً ذا طابع استراتيجي، فمنذ متى كانت حركات التحرّر الوطني أدوات لمُجرَّد أنها تتلقّى دعماً سياسياً أو مادّياً من هذا المحور أو ذاك؟ ومنذ متى يُعاب على حركاتٍ كهذه عملها لصالحها، وهو تحرّر شعبها، لا خدمة من يريد توظيفها لصالح ملفّاته هو، في صراعه مع الغرب؟
بعد نحو شهر من بدء العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزّة، اعتبر ظريف (وكان وزيراً سابقاً للخارجيّة ولم يكن قد صعد مجدّداً قطار الحكم مع الرئيس الجديد مسعود بزشكيان، وكلاهما يعزفان المقطوعة نفسها) موقف مرشد الجمهورية والأمين العام لحزب الله بالامتناع عن دخول الحرب في جانب حركة حماس "ذكياً"، فدعم المقاومة لا يشمل الحرب معها، كما قال.
طبعاً، هذا شأن إيران التي تعرف دول المنطقة ونخبها موقفها وتكتيكاتها، ولا تراودها أوهامٌ عن موقفٍ تتحوّل فيه إيران جبهة أمامية كما تطلب هي من حلفائها، ولنقل أدواتها، فهي تحارب بالآخرين وبدمهم واستقرار مجتمعاتهم وإجماعهم، ولا يعنيها تمزّق تلك المجتمعات لتحسين شروط جلوس ظريف أو سواه على طاولة المفاوضات في فيينا أو بروكسل، فلماذا وقر في ذهن ظريف أن على حلفاء بلاده (والتعبير ملطّف) ألا يعملوا لصالحهم، بل لصالح بلاده، التي يعتبر عدم دخولها الحرب للدفاع عنهم "ذكاءً"، وليس خذلاناً أو تخلّياً وانكشافاً للاستراتيجية الإيرانية "المعلومة" القائمة على مدّ نفوذها عبر الآخرين، وفي دولهم، وعلى حساب مجتمعاتهم التي ما تمزّقت على النحو المريع إلا بعد التسلّل الإيراني إليها؟
يمكن فهم موقف ظريف ضمن السياق الانعزالي، إذا صحّ وصف نخبة عريضة، وإنْ كانت متنحيّة أو مهمّشة في إيران، ترى أن طهران خسرت كثيراً بعداوتها للغرب، ومسعاها لتصدير "الثورة"، بل وفي ادّعاء تمثيلها الشيعة في العالم، بينما هي مُجرَّد دولة وليست إمبراطورية شاسعة المساحة، متعدّدة العرقيات، وهائلة الأصول.
لا يمثّل ظريف في هذا نفسه، بل تيّاراً عريضاً، يُعتبَر الرئيس الحالي جزءاً منه، وكان المرشّحان للانتخابات الرئاسية عام 2009 مير حسين موسوي، ومهدي كروبي، بل والرئيس السابق محمد خاتمي، من ضمن هذا التيّار، الذي يرى أن على إيران أن تنعطف سياسياً، ولو بشكل حادّ، عن المسار الذي خطّه مؤسّس الجمهورية الإسلامية، بحيث تعود إلى مكانها الأوّل أو الأصلي المفترض، دولة ذات مصالح لا نفوذ إمبراطوري مفترض، وعليها بالتالي قطع علاقاتها مع أدواتها، أو على الأقلّ ترشيدها وضبطها، والانفتاح على الغرب، وصولاً إلى علاقة ندّية معه.
والحال هذه لا يُلام ظريف (أو سواه)، بل يُذكِّر بأن بلاده هي من سعت إلى إيجاد الحلفاء - الأدوات في الإقليم، وأنها تدخّلت في سيادات دول الجوار، واستغلّت هشاشتها، ومزّقت مجتمعاتها بشعارات تستند إلى فكرة تصدير الثورة التي نتمنّى على تيّار ظريف وبزشكيان التواضع والاعتراف بضرر ذلك على الجوار قبل إيران، والاعتذار عن ذلك بدلاً من لوم "حماس" أو سواها، وهي حركة تحرّر وطني، وليست مثل حزب الله، الذي لا يتمتّع بهذه الصفة، والذي دفع ثمن تردّد طهران وتخلّيها عنه في اللحظة الحاسمة.