"البطل"... جماليّات متعدّدة المستويات
تعرّض مسلسل "البطل" للانتقاد، حين وجد بعضُهم في النصّ تبييضاً وتلميعاً لصفحة النظام البائد المندحر ملطّخاً بالخزي والعار، من خلال تقديمه شخصيةً محسوبةً على النظام بصورة إيجابية، هي شخصية "الرقيب راجح"، الشرطي الشريف المحبّ لأهل ضيعته، المكترث بهمومهم ومعاناتهم وظروف معيشتهم الصعبة في ظلّ الحرب الدائرة على تخوم الضيعة الصغيرة في الساحل السوري، حيث الحرمان والفقر وشحّ الموارد وخطر الموت الوشيك، وقد شكّلت أصوات الانفجارات العنيفة خلفيةً دائمةً للمسلسل.
والحقّ أن تلك الرؤية تنطوي على كثير من التحامل والتجاهل والتقليل من روح النص/ الوثيقة، التي قاربت الواقع بدقّةٍ متناهيةٍ. وقد أبدع كاتب السيناريو رامي كوسا في تقديم نصٍّ ذكيٍّ أخّاذ، تناول معاناة المدنيين العزّل، الذين يدفعون دائماً الثمن الأكبر في الحروب قتلاً وتهجيراً وبرداً وجوعاً وحرماناً من متطلّبات العيش اليومي البسيط، من وقودٍ وكهرباءَ وموادَّ تموينيةٍ أساسيةٍ.
اعتمد الكاتب اسلوب الحوار المكثّف المتحرّر من فائض الثرثرة، ولم يتّخذ موقفاً سياسياً مباشراً من الأحداث، مع أنه قال كثيراً عن تلك المرحلة المظلمة من تاريخ سورية، غير أن الثيمة الأساس تركّزت في معاناة الأفراد وحياتهم اليومية، وتركيبة علاقاتهم وشكل صراعاتهم، وتحوّلات بعضهم تأثراً بالعنف الدائر، وقد انطوى العمل على إدانة صريحة من خلال فضح ممارسات النظام المجرم، الذي انتهج القتل والنهب والبلطجة والبطش والاعتقال أسلوباً وحيداً لإدارة دولة متهالكة منهوبة، سيطر عليها الفساد الذي نخر مفاصلها وكشف نظاماً سلطوياً مستبدّاً، لفظ مواطنيه وتنكّر لهم، وتركهم يواجهون مصيرهم في حالة الفوضى والدمار والمستقبل القاتم، فاقدين الإحساس بالأمان والاستقرار، طامحين إلى الهرب بأولادهم بعيداً من ذلك الهول الذي أطاح أحلامهم وطموحاتهم وآمالهم، وخلّفهم في مهبّ المجهول والغامض والمخيف.
كما أبدع فريق العمل من ممثّلين قديرين في نقل الصورة الواقعية لعذابات الشخوص، كان في مقدّمتهم المبدع الكبير بسّام كوسا الذي تفوّق على نفسه من خلال تأدية شخصية "الأستاذ يوسف"، الرجل المثالي النبيل، صاحب المبادئ والقيم، الذي أنقذ طفلاً من الحريق ودفع الثمن جلوسه النهائي مقعداً في كرسيٍّ متحرّكٍ، وقد حاول التشبّث بصفاته الجميلة رجلاً مستقيماً قويَّ الشخصية مهاباً محترماً، مؤثّراً في محيطه رغم ألسنة نيران الجحيم التي وصلت عتبة بيته. اعتصر بسّام كوسا في هذا الدور خلاصة تجربته الإبداعية المتميّزة، وقدّم لنا بعفوية قصوى، ومن دون أيّ افتعال، شخصيةً مركّبةً متعدّدةَ الملامح، تضعه بجدارةٍ في مصاف نجوم عالميين. وكذلك أدّى الممثّل محمود نصر ببراعة وإقناع كبيرين شخصية "فرج"، الولد الفقير اليتيم المنبوذ المتمرّد العاشق، الطامح بتوفير حياة أفضل لحبيبته التي تزوّجته رغماً عن أهلها، غير أنه يتورّط مع سماسرة الحرب في أعمال سلب وتهريب وقتل، جرّاء ظروف الحرب والدمار التي حوّلت مسار حياته كلّياً، وجعلت منه شخصاً عنيفاً قادراً على إلحاق الأذى بالآخرين، وجعلته في حالة صراع نفسي بين ما آل إليه ومعدنه الطيّب الأصيل.
أمّا الحضور النسائي في العمل فكان قويّاً ومؤثّراً، إذ تمكّنت جيانا عيد من تجسيد دور "أمّ فرج"، غاسلة الموتى التي أنجبت ابنها في السجن، بعد أن أقدمت على قتل زوجها العنيف، الذي كان يضربها بوحشية، وقد عبّرت ملامحها المتعبة المتخفّفة من أيّ عمليات تجميل عن مشاعر حزن عميق، وقلق وخوف دائمين على وحيدها الذي يلعب بدمه. ولم يختلف أداء الممثّلة هيما إسماعيل، من حيث القوّة والبراعة والإتقان في دور "المهندسة رانية"، زوجة "الأستاذ يوسف"، التي تشبهه في كثير من الصفات، سيّدة أربعينية تحبّ عائلتها وتحاول القيام بعملها في البلدية بأمانة وإخلاص، لكنّها تقع فريسةً في مطبّ الفساد، بسبب فساد المنظومة بأسرها.
ازدحم المسلسل الذي يمكن تصنيفه عملاً سينمائياً مكتملاً بالتفاصيل الجمالية على مستويات الإخراج والكتابة والأداء والموسيقى التصويرية، والمشهدية البديعة... تحية تقدير لفريق العمل، الذي حاز أعلى نسب مشاهدة وإشادة، وهو يأخذ جمهور المتابعين إلى مستوى أعلى من التلقّي والانفعال والتفاعل.