البشر هوامشَ في مشهد سينمائي

البشر هوامشَ في مشهد سينمائي

23 ابريل 2022

(فاتح المدرّس)

+ الخط -

تحكي أسطورة قديمة إن رسّاماً رسم ذات يوم حصاناً أبيض نادر الوجود، ومن شدّة جمال الحصان وعنفوانه، لم يستطع الفنان مقاومة رغبة امتطائه، فدخل إلى اللوحة وركب الحصان، وانطلقا معاً لاكتشاف العالم. ثم رسم الفنان عصافير فبدأت بالتغريد. رسم شجراً عارياً فاخضرّ وأزهر. رسم غيوماً فأمطرت، رسم نهراً ففاض، رسم حقلاً للقمح فلم يجُع أحد، كان الفن في ذلك الزمن معادلاً للحلم، صورته ووجهه الآخر. "أحلم بالرسم ثم أرسم حلمي"... هكذا قال فنسنت فان كوخ ذات يوم.

غير أن خيال الرسام تجاوز بعد زمن حدود الأشياء المدركة أو المتوقعة، دخل في مساحة اللاممكن، أو اللامدرك. حقل القمح مثلاً أو حقل عبّاد الشمس صار مساحات أرضية تستقبل كائناتٍ قادمة من مواكب مجهولة. تداخل هنا خيال الفن مع العلم، ومن هذا التداخل حاول الفنانون والعلماء الإجابة عن أسئلة كبرى عن الوجود وعن الموت وعن الكون: "العالم بلا معنى، لماذا تريدون مني أن أرسم لوحات ذات معنى، بابلو بيكاسو"؛ التداخل بين الفن والعلم كان يهدف إلى إيجاد معنى لهذا العالم العبثي الذي رسمه بيكاسو في لوحاته، عبث الحياة أوجد الفنون على أنواعها، وخيال العلم حاول ليّ عنق العبث؛ سرعان ما تحوّل خيال العلم إلى فن. نقلت السينما كل ما أنتجته مخيلة العلماء المتحالفة مع الفنون: الحياة في الكواكب الأخرى، عالم مفترض ما بعد الموت، أشكال غير مألوفة للكائنات هي مزيج بين البشر والحيوانات تنتج عنه مخلوقات غريبة. أعادت سينما الخيال العلمي الأساطير القديمة عن المخلوقات والكائنات والآلهة، ولكن بخيال حديث، فيه من الرياضيات والكيمياء والفيزياء ما يذهل. ومع تقدّم العلم واختراع الحاسوب، صمم فن الخيال العلمي الرجل الآلي أو الروبوت، شكلاً بشرياً مصنّعاً من المعدن، ويتصرّف ويتحرك بعقل صناعي مبرمج. يا للهول، صرخ البشر من الدهشة، إذ كان ذلك يمكنه أن يبقى مجرّد خيال علمي وفني يذهل البشر.

لكن حتى صناع الخيال العلمي تنبهوا إلى أمر مهم: ماذا لو تحوّل الروبوت إلى بديل عن البشر؟ عشرات الأفلام والمسلسلات التلفزيونية والسينمائية سألت هذا السؤال، ماذا لو احتلّ الروبوت مكان البشر، ما الذي سوف يحدُث؟ السينما الهوليوودية نفسها المموّلة من شركات ازدهرت بفضل الرأسمالية خافت من أن يحتلّ الروبوت، المنتج المشترك بين الفن والعلم والرأسمال، مكان البشر. كان هذا منذ عقود تجاوزت الآن الخمسة عقود وأكثر، حين كان الإنسان الآلي يستخدم في الملاحة والطيران والفضاء وكل ما يمكن أن ينتج عنه كارثة كبرى فيما لو حدث أن فقد أحدهم تركيزه لوهلة. كانت الآلة في خدمة البشرية، وتطوّر ذلك حين أصبحت تلك الآلة تُستخدم في العمليات الجراحية الكبرى والدقيقة، في تعويض الأعضاء البشرية الناقصة أو المفقودة أو المعطوبة، في كل ما يجعل من حياة البشر أكثر سهولةً ويسراً وأماناً. كان يمكن أيضاً أن يبقى الأمر في حدود خدمة البشر، لولا أن الرغبة في السيطرة والقوة والتحكّم استخدمت المنتج العلمي الأهم في تاريخ البشرية لخدمتها، حتى باتت تنتج فيديوهات دعائية تستعرض فيها أهم منتجاتها من الروبوتات الحديثة.

بدأت شركة بوستون ديناميكس (Boston Dynamics) الأميركية قبل مدة عرض فيديوهات مصوّرة عن آخر منتجاتها من الروبوتات، روبوتات عمال مصانع وعمّال بيوت ومدبرو منازل وأخرى رياضية وعسكرية وهندسية وطبية وترفيهية راقصة، وسرعان ما تلقت من شركة DHL للشحن عرضاً لشراء الروبوتات الخاصة بالتحميل والنقل والتوصيل. تخيّلوا مثلاً خط تعبئة يستخدم عشرة عمال بشريين، وتدفع لهم أجور شهرية وتأمينات وتعويض صحي، استغنت الشركة عنهم مقابل روبوت واحد سعرُه يعادل مصاريف عشرة عمّال لسنة واحدة فقط، صفقة ممتازة للشركتين، المنتجة والمستهلكة، لكنها صفقة قاسية وبلا رحمة للبشر، سيجد هؤلاء العمال أنفسهم مع عائلاتهم بلا أي مصدر للدخل. لا يجبر نظام رأس المال أصحاب العمل على تعويض المستغنى عنهم مدى الحياة، ولا تتكفل بهم غالبية الدول الرأسمالية وغيرها. تخيّلوا مصائر ملايين العمال والموظفين في العالم الذين سوف يجرى استبدالهم بروبوتات تنتجها مصانع تستخدم روبوتات في صناعة مثيلاتها.

تخيّلوا هذا الاستبدال في كل شيء، وما يمكن أن ينتج عنه من بؤسٍ بشري مضاعف عما هو عليه الآن، حيث يسير العالم كما يبدو نحو تحوّله إلى مشهد سينمائي تسير فيه الروبوتات في المتن، تستعرض ما أنتجه زمن ما بعد الحداثة، بينما البشر يحتلون الهوامش، كما لو أنهم أصبحوا جميعاً سلالات الهنود الحمر.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.