البرهان والرهان الخاسر في السودان

البرهان والرهان الخاسر في السودان

20 أكتوبر 2021
+ الخط -

أزمة سياسية تبلغ مداها في السودان. يبدو أنّ رئيس مجلس السيادة، الفريق عبد الفتاح البرهان، يلعب آخر أوراقه في جدل العسكر والمدنية، وهي ورقة خطرة، ليس فقط على الأطراف السياسية وحدها، وإنما على السودان وأمنه بكامله، فالرجل ظل يلهث وراء سراب التفويض من الشعب السوداني وتنصيبه رئيساً للبلاد، أملاً في نسخ التجربة المصرية لسميّه عبد الفتاح السيسي. والثابت أنّ شيئاً ما لا يسير كما يتمنّاه البرهان، بل إنّه يُقابل، في كلّ مرّة يجرّب فيها الرهان على حصول معجزة وسحب ورقة التفويض، بصدٍّ صادم من الشارع السوداني. تكرّر الفشل والصدّ في الفشقة، وفي حادثة القبض على الخلية الإرهابية في الخرطوم. وبدلاً من الهتاف باسمه كما توقع، فوجئ بهتاف الشباب العنيف ضدّ شخصه، ما اضطرّه لمغادرة المكان. وأخيراً في شرق السودان، حينما تخلّى عن مسؤولياته الدستورية قائداً للجيش وتتبعه الشرطة والأجهزة الأمنية، لكنّه لم يجعلها تتصرف بشأن ما أقدمت عليه مجموعة صغيرة، مؤيدة لناظر البجا، محمد ترك، عندما أوقفت حركة الصادر والوارد عبر ميناء بورتسودان على البحر الأحمر، الأمر غير المسبوق في السودان. وأخيراً سماحه للقوى المؤيدة للنظام القديم بمشاركة الحركات المسلحة من دارفور والشريكة في الحكم، بتنظيم تظاهرة، تحولت سريعاً إلى اعتصام أمام القصر الجمهوري، أقل ما يوصف به بأنّه تحت رعاية كاملة من الشقّ العسكري في الحكم.

يرفض الشارع حالة الضعف والتخبط والعجز التي تبديها الحكومة، ما يتسبب في زيادة الأزمات التي تواجه المواطن السوداني

السؤال الملحّ هنا، هل يمكن أن يتحقق حلم البرهان بالحصول على التفويض السياسي الذي لطالما حلم به؟ الإجابة أنّه لن يحصل على شيءٍ من ذلك، لأنّ البرهان أظهر مرّة بعد أخرى أنّه لا يجيد قراءة الواقع السياسي، وبعيد عن إدراك مطلب الشعب بالتغيير الجذري، وهو لا يزال يمارس رقابته المحكمة على طرفي الحكم، المدني والعسكري. وأيضاً لأنّ البرهان يجرّ الجيش إلى مواجهة غير مسبوقة مع الشارع السوداني. وتحت قيادته، تحوّل الجيش من مؤسسة ضامنة لحماية أمن البلاد واستقرارها إلى جزء أصيل في الصراع السياسي، وذلك لأول مرة في السودان. تاريخياً، كان الجيش يدخل الساحة السياسية إما بطلب صريح من القوى السياسية الكبرى، ممثلة في الطائفتين الختمية والأنصار، كما حدث في انقلاب إبراهيم عبود في 1958 أو في انقلاب جعفر نميري في 1969، والذي جاء محمولاً على خلفية صراع عاصف بين اليسار بقيادة الحزب الشيوعي والطائفية وجماعة الإخوان المسلمين. لكنّ الصورة تبدو، هذه المرّة، أكثر خطورةً، فالجيش بثقله في الميدان مقابل الرفض المتواصل لوجود العسكر في الحكومة الانتقالية. وليس الجيش وحده، بل هناك الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا، وهي على الرغم من أنّها طرف أصيل في الحكومة المدنية، ممثلة في وزير المالية جبريل إبراهيم وقياداتٍ من الجبهة الثورية وحاكم ولاية دارفور مني أركو مناوي، فهي تدعم ضم عناصر النظام القديم للحكومة، بحجّة توسيع قاعدة الحكم. ويخطئ البرهان حينما يواصل انتقاده الصريح أو المبطن للحكومة المدنية، بينما هو شريك أصيل معها في كلّ الخطوات، ما جعل رئيس الوزراء عبد الله حمدوك يسمّيها النموذج السوداني الفريد في الحكم. أضف إلى ذلك أنّ البرهان، بوصفه القابض على مفاتيح الأمن والجيش والشرطة، غير أنّه لم ينجز شيئاً ملموساً على هذا الصعيد، فلا المواطن شعر بأمنٍ قد تحقق، ولا هيكلة على أيّ مستوى شهدتها القوات المسلحة أو الأجهزة الأمنية. وكأنّما يعلن العسكر بذلك الرفض الصريح لكلّ مطالب الشارع في إعادة بناء القوات المسلحة والأجهزة الأمنية والشرطة. وفوق ذلك، كلّ يوم يمرّ يتأكّد أنّ الشق العسكري يتعمد زرع الألغام على طريق التحوّل المدني الديمقراطي للدولة، إذ لا تزال 80% من الموارد المالية للدولة بيد الجيش، وهذا ما أعلنه حمدوك، الذي قال، قبل أكثر من عام، إنّ لا شيء تغير، فمؤسسات الجيش تحتكر أغلب النشاط الاقتصادي في البلاد، عبر شركات متعدّدة تمارس نشاطها بعيداً عن رقابة وزارة المالية أو الوزارات ذات الصلة بالنشاط الزراعي أو التجاري. وفوق ذلك كله، نصّ اتفاق جوبا على إدماج قوات الدعم السريع وسائر القوات المنتمية للحركات المسلحة بالقوات المسلحة السودانية، وهو ما لم يبدأ بعد. وبكلمة واحدة، يرفض الشق العسكري، على عكس تفاؤل حمدوك، القيام بواجباته تجاه التحوّل الديمقراطي.

إلى ذلك، يبدو أنّ عبد الفتاح البرهان يعوّل، عبر الشريك المقرّب محمد حمدان دقلو (حميدتي)، على دعم إسرائيلي لمحاولاته للاستفراد بالحكم، وهذا ما تشهد عليه الحركة النشطة مع أبوظبي وإسرائيل، وهذا ما يزيد من غضبة الشارع السوداني عليهما معا.

المطلوب شعبياً الالتزام بالبرامج الأولى للثورة، والتقيد بترتيب البيت لحكم مدني مستدام

بصورة أكثر وضوحاً، رهان البرهان وحميدتي والمجموعة العسكرية على تأييد الشارع خاسر ومرفوض من غالبية الشعب، وتؤكده المسيرات الضخمة والهتافات القوية. وفي الوقت نفسه، يرفض الشارع حالة الضعف والتخبط والعجز التي تبديها الحكومة، ما يتسبب في زيادة الأزمات التي تواجه المواطن السوداني.

وأخيراً، ثمّة السؤال عما إذا كان السودان سيشهد انقلاباً عسكرياً، والإجابة هي استبعاد ذلك، لكنّ الأقرب إما التوصل إلى حلّ وسط يجمع عناصر المدنيين مع العسكر بشراكة جديدة، لمواصلة الابتعاد عن التغيير الجذري المطلوب شعبياً وتأجيل حسم الصراع مجدّداً، أو أنّ ذكرى ثورة 21 أكتوبر (تشرين الأول 1964) ستمنح الكلمة العليا للشعب مرة أخرى، كما حدث في إبريل/ نيسان 2019، حينما أعلن عن نهاية نظام البشير، ويعلنها، هذه المرّة، نهاية حكم العسكر منتصرا للخيار المدني. وهذا قد لا يتم بجهد مدني خالص، وإنما بتحرّك من صغار الضباط داخل الجيش وانحيازهم للشعب، ووضع نهايةٍ لمسار طويل من الآلام.

في كلّ الأحوال، المطلوب شعبياً هو الالتزام بالبرامج الأولى للثورة، والتقيد بترتيب البيت لحكم مدني مستدام، يقطع الطريق على العسكر وعلى كلّ مقامر مهما كان.

0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.