البابا فرنسيس وآلام غزّة

04 مايو 2025
+ الخط -

مات البابا فرنسيس، وفي موته خسارة كبرى تتجاوز الكاثوليك والعالم المسيحي بمختلف طوائفه، لتشمل بقية سكّان المعمورة، بمن فيهم المسلمون وغيرهم من أصحاب المعتقدات. وبما أننا نعيش مرحلة انحسار العقل، وتراجع عدد الحكماء في العالم، مقابل اكتساح غير مسبوق للعنصرية والهمجية والأنانية والجوع الروحي والثقافي، فإن فقدان شخصية مثل البابا يعدّ حدثاً كبيراً ومؤلماً وذا رمزيةٍ عالية.

الذين ظنّوا أن مرحلة الأديان انتهت، وأنها على أبواب الأفول، لعل كثيرين منهم راجعوا أنفسهم وهم يتابعون عودة المقدّس بشكل قوي ومؤثر في حياة الشعوب. لا يتعلق الأمر فقط بما يسمّى العالم الثالث الموصوم غربيا بـ "التخلف المعرفي والصناعي"، وإنما يلاحظ أن المعتقدات الدينية باختلاف ألوانها لم تستسلم رغم طغيان الثقافة المادية وتحجر المشاعر، حيث صمدت هنا وهناك، ووجدت من يحميها، ويجعلها مؤثرة وفاعلة. وتبين أن الأديان باقية ما بقي الإنسان فوق الأرض.

مع ذلك، تتعرّض الأديان لمخاطر كثيرة ومتنوعة وجسيمة، لعل من أهمها ثلاثة. أول هذه المخاطر المتحدّثون باسمها من رجال الدين والدعاة والكرادلة والرهبان، الذين رغم محاولاتهم الارتقاء في السلم الروحي والأخلاقي، لا يزال كثيرون منهم يتناقضون مع إيمانهم، ويمارسون "تديّنهم" بطرق تفتح المجال للطعن في مصداقيتهم، وتضعهم في موضع المساءلة والشك. لهذا كان المفكر الإيراني، علي شريعتي، كثير الاشتباك مع شيوخ الحوزة، واعتبر أن أخطر ما يهدّد الدين مفسّروه ومحتكروه.

أما الخطر الثاني فمصدره الفكر الديني الذي يستند إليه المؤمنون عموماً بمختلف مشاربهم. إذ كلما كان هذا الفكر بعيداً عن العقلانية، وملتصقا بالخرافة، ولا يستند إلى المقاصد والمصالح، ابتعد أهله عن جوهر الدين قيمة أخلاقية عليا. وكم من أجيال وجماعات تأثرت بأقوال وأفكار ساذجة أو خطيرة، فأضرّت بنفسها وضيّعت غيرها، وحولت الدين إلى أدوات تخدير أو تخريب وانتحار، وجرّت مجتمعاتها إلى التورّط في حروب أهلية.

ويتمثل الخطر الثالث في الاستبداد الذي يتخذ من الأديان قناعاً، ويحوّل الشعوب إلى قطعان يستغلها لتثبيت شرعية الحاكم، وسرقة ثرواتها، ويحقق من خلالها مصالحه وشهواته. وأخطر أنواع الاستبداد هو الاستبداد الديني على الإطلاق.

كان البابا فرنسيس مدركا لهذه المخاطر والتحديات. لهذا حاول التعامل معها بشجاعة وذكاء من دون أن يصطدم بشكل مباشر وحاد بالقوى السياسية والمالية التي تقف وراءها وتجسدها. كان عالما بالأزمة العميقة للكنيسة وملفاتها المعقدة، وكان عليما بمراكز القوى داخلها. لهذا حاول أن يشقّ طريقه الإصلاحي بتؤدة وبقدر من الجرأة. وبما أن أتباع الكنيسة الكاثوليكية يعدون بمئات الملايين، وموزعون على القارات الخمس، فقد حرص على احترام مشاعرهم الإيمانية دون أن يكبت بعض آرائه وقناعاته التي عبر عنها بوضوح واقتدار.

لعل من أهم المواقف الدينية والسياسية التي دافع عنها البابا حتى الرمق الأخير من أنفاسه، دفاعه عن غزّة، ورفضه سياسة الإبادة الجماعية التي مارستها إسرائيل وحكومتها الفاشية. لقد رفع صوته عالياً ضد قتل الأطفال والنساء وتجويع المدنيين، ومنع الغذاء والماء على السكان، وهو ما أثار غضب نتنياهو وفريقه الحكومي الفاشي، الذين قرّروا بناء عليه عدم حضور جنازته. لقد أدرك أن إيمانه بالله وقيمه لا تسمح له إطلاقا بالسكوت عن ذلك الظلم الفظيع الذي لحق بغزّة وبالفلسطينيين، ورفض أن يضفي الشرعية على هذين العبث والجنون، وأن ينخرط في هذا النفاق العالمي الذي عملت الصهيونية على جعله العملة الوحيدة القابلة للتسويق في السياسات الدولية الراهنة. كما رفض البابا فرنسيس الإمبريالية القبيحة المتدثرة بتديّن كاذب، عندما عارض بوضوح المنهج الذي يتعامل به ترامب المغرور الذي بلغ حدّ اعتقاده أنه لا يدير شؤون أميركا فقط، وإنما أيضاً يسير شؤون العالم.

هل تقف سياسة البابا فرنسيس الإصلاحية بعد وفاته أم ستتواصل مع خلفه؟ سؤال تصعب الإجابة عنه. لكن الأكيد أن جميع الأديان بما فيها المسيحية مطالبة بأن يكون لها موقف واضح من الفوضى التي تهدد العالم قبل انهيار الحضارة الإنسانية.