Skip to main content
البؤس الفلسطيني وليس الكاريكاتير
معن البياري
(هاني حوراني)

يتباهى الفلسطينيون كثيرا بالأعداد العالية لذوي التعليم العالي بينهم، وبأنهم يُحرزون تصنيفاتٍ متقدّمةً عالميا في نسب الملتحقين بالمدارس والجامعات. ومعلومٌ أن الأسرة الفلسطينية، تاريخيا، تعدّ تعليم أبنائها سلاحا وشأنا بالغ الضرورة. وإذ يجوز اعتزاز الشعب في وطنه الموحّد، وفي شتاته، بهذا، فإن وقائع، تتوالى منذ سنوات، تبيح القول إنه صار على الفلسطيني أن يعدّ للعشرة قبل أن يغتبط بالكثرة هذه، لغير سبب وسبب. ولا يغالي صاحب هذه الكلمات، ولا يتطرّف، عندما يجهر، هنا، بأن الهجمة التي استُهدف بها معرض "فلسطين وياسر عرفات" الذي افتتح، الأحد الماضي، في متحف ياسر عرفات في رام الله، على صلةٍ بعدّ العشرة، فهي مقطعٌ شائنٌ، ومعيبٌ، في راهن الحالة الفلسطينية البائسة التي تقيم في القاع، وقد شنّها من يحسَبون أنفسهم وحدهم الغيارى على صورة القائد الراحل، ياسر عرفات، عندما ادّعوا أن رسوم كاريكاتير في المعرض أساءت له، فقد دلّ الكلام الوفير الذي رُميت به هذه الرسوم على نقصانٍ فادحٍ في معرفة نخبٍ غير قليلةٍ من الشعب الفلسطيني، ذات تعليمٍ عالٍ ورفيع، ولها مواقع متقدّمة في العمل العام، ببديهيات الفن والتعبير والمعرفة، لا بالكاريكاتير فحسب، بل أيضا بكيفيات استقبال الإبداع والفنون والجماليات. ذلك أنه فيما لك كل الحق في أن لا تستسيغ رسما، أو أن لا يعجبك عمل فني، لا يجوز أبدا (نعم أبدا) لك إهانته والتجرّؤ عليه، وتفتئت عليه بما في دماغك، وليس فيه. وعندما تشيعُ ثقافةٌ مثل هذه بين الفلسطينيين، بخصوص عرفات أو غيره، ويتقدّم فرسانها في "السوشيال ميديا"، وفي ميادين رام الله وشوارعها، أبطالا مدافعين عن صورة الشهيد الرمز، فيما غيرُهم متساهلون، متواطئون، فإن حالا كهذا يؤشّر إلى أن العطب كبيرٌ في القاع الفلسطيني، بل وخطيرٌ ربما. وعندما تُصادف تصريحا لقيادي من حركة حماس، يفتري على المعرض ومنظمّيه، فإن عجبا غزيرا يدفعك إلى التساؤل عمّا إذا كان الحسّ الجمالي الرفيع بالفنون، والحرص على عدم المسّ بالرموز (بتعبيره)، قد تسرّبا أخيرا إلى الحركة العتيدة وأنت غافلٌ عنهما.

ضمّ المعرض الذي نظمته مؤسّسة ياسر عرفات نحو 350 لوحة، شارك بها أكثر من مائة رسام من 43 دولة. وهذا يعني أن مصادرة تلك اللوحات (نحو عشرين)، وإصدار البيانات وإعلان التصريحات التي قرأنا وسمعنا، فضيحةٌ فلسطينيةٌ عالميةٌ بكل معنى الكلمة. ولا يدري واحدُنا ما الذي أحدثه هذا الفعل في أفهام رسامين عديدين مناصرين لشعب فلسطين وقضيته، عندما يرِد إليهم أن شعبا مثقفا، مناضلا، أعطى شعراءُ وأدباءُ ومفكّرون منه الإنسانية إبداعاتٍ وإسهاماتٍ عالية القيمة، يجهل سدنةٌ فيه فن بورتريه الكاريكاتير، ولا يميّزون بين الإساءة ونقيضها فيه. ومن بالغ الشذوذ أن مطالباتٍ عريضةً شدّدت على وجوب تحقيق في أمر هذا "التدبير" الذي تعمّده من تعمّده في مؤسسة ياسر عرفات للسخرية من الزعيم الشهيد، وذهب بعضُهم إلى طلب إقالة رئيس الحكومة، محمد اشتيّة، بسبب افتتاحه المعرض، وتغريده مثمّنا له (حذف تغريدته تاليا!). وليس عسيرا على المدقّق في الزوبعة المفتعلة أن يلحظ أن ثمّة "وراء الأكمة ما وراءها" في غضبة بعض الغاضبين، من قبيل تصفية حسابات، وتسجيل نقاط، وإشهار مزايدات، فلا يمكن حسبان حديث المُزاح من رئاسة مؤسسة ياسر عرفات، (لا يعني وصفُه هذا أن الكاتب مع إزاحته)، ناصر القدوة، إنه لا يستبعد أن وراء الإساءة "مخطّطا" ما، في غير هذه المواضع. ومع الاتفاق مع وصفه الحالة الفلسطينية بأنها بائسة، ومع التسليم بقوله إن ما يجري في المؤسسة يعكس الوضع الفلسطيني العام، فإن كلاما صحيحا مثل هذا لا يُجيز لصاحبه وصايةً منه على أهل الكاريكاتير، كما التي افترضها القدوة في نفسه، عندما صار يعرّفهم بالمسيء من غير المسيء. وينطبق الأمر نفسه على وزير الثقافة الفلسطيني السابق، عضو مجلس أمانة مؤسسة ياسر عرفات، إيهاب بسيسو، الذي كان غريبا منه نعتُه المعرض بأنه "عبث"، و"مغامرة متهوّرة"، في مطوّلة أشهرها، تضمّنت كثيرا مما يلزم أن تُرفع بصدِده أكثر من نقطة نظام، وقد كان في وسع الوزير الشاعر أن يكتفي بعدم إعجابه بالرسوم، وبأنها لا تلتقي مع ذائقته.

انتصرَ لشعب فلسطين وكفاحه الرسام الفرنسي بلانتو (50 عاما في "لوموند")، والذي رسم عرفات بكيفياتٍ كاريكاريترية خاصة، وكرّمه الزعيم الراحل. وشارك البرتغالي أنتونيو دوس سانتوس في المعرض (مقفل بسبب الثلج!) برسمٍ منه عرفات، بدت فيه مبالغاتُ الكاريكاتير المعلومة. لهما، ولكل أنصار الجمال والحرية، ولكل المتضامنين مع فلسطين وشعبها، نعتذر منكم .. ما فعله أولئك، وهم كثيرون، مرفوض، ويمثلون به أنفسهم.

يا أصدقاءنا، إنه الحال الفلسطيني البائس وليس الكاريكاتير.